أكثر ما اضر بالشعر، هو لهاثنا لوضعه فوق الورق مخلوف: القصيدة المحكية أقرب إلى وجدان الناس وضمائرهم
بقي ما كتبه من قصائد خجولة نائما بين طيات دفتره الشعري الأول، زمن الشباب والقلب المنفتح على الجمال كآية مقدسة يرتلها صباح “وادي العيون”، حيث ولد وترعرع، بعدما أهدته الينابيع والكروم وريقات دفتره الشعري، ليحفظ فيه كل ما جادت به نفسه في تفاعلاتها مع ما حولها وحيالها، من جمال ورقة وعذوبة وحزن شفيف أيضا، كما تفاعلت مع ما يعتمل في داخلها من صراعات إنسانية ووجدانية قائمة على التذوق السليم لتفاصيل الحياة المتنوعة ومعرفة النكهات الأكثر جودة وديمومة كنكهة الحب بكل أنواعه.
مضت الحياة وجرت الأيام كعادتها، لتكون القصائد التالية التي سيكتبها، هي الأكثر بقاء وحظا في الحياة، حيث ترك “بسام مخلوف” دفتر قصائده في غرفته التي ودعها وودع معها زمناً بديعاً مرّ تحت ناظريه كنبع ماء يثرثر مع أوراق صفصافة، ومضى ليلتحق بإحدى الكليات العسكرية، هناك حيث سيصبح الوطن أبا وأماً وابناً، وما سيخطه من أفعال بين رجالات هذه المؤسسة الكريمة، سيصبح ابد الدهر قصيدة من نور.
يحكي بسام عن علاقته مع الشعر بكثير من الحساسية والشغف “الشعر لدينا نحن أبناء الريف السوري البديع، هو حالة طبيعية، وربما رد فعل طبيعي على آلاء الجمال الطبيعي والمشاعر الصادقة التي تخبرنا عنها البساتين والأنهار والحواكير، فكانت القصيدة عندي مثلا هي “سكوبة” التبغ، وقصيدة أجمل هي ضحكة النبع وهكذا، بقيت تلك القصائد التي نظمتها في ريعان الشباب الباذخ، غافية بين أوراقي ودفاتري الأولى حيث مضت الحياة ليكون وجودي كضابط في صفوف الجيش العربي السوري العظيم، طاغيا على كل ما سواه، خضت العديد من المهام القتالية مع رفاق السلاح، وهناك حيث يكتب الحديد والنار هوية التاريخ، تصبح كل الحروف ذخيرة من نور في البال والقلب”.
تأخر الشاعر “بسام مخلوف” في إظهار ما كتبه وما صاغه من قصائد شعرية، لأسباب الحياة ومشاغلها، لكن الحرب التي فرضت على وطنه وعليه بطبيعة الحال، جعلت عودة ألق الحروف وشغفها، واجبا عظيما له الذي قال متابعا: “بعد أن تقاعدت من الجيش، وفي زيارة إلى مسقط رأسي فاجأتني والدتي بذاك الدفتر العتيق، حيث اصفرت أوراقه، لكن ما كان مكتوبا فيه، بدا لامعا وطافحا بالحياة، حتى لكأنني في الأمس القريب فقط تركت هذه القصائد غافية بين أوراقي، وكما تعرف القصيدة وإحساسها ومشاعرها تفرض نفسها وبقوة، لذا عندما بدأت الحرب على سورية، وجدت نفسي أخط المزيد من القصائد التي جاء الواقع بما فيه هو محركها الرئيسي، وكان لحماة الوطن ولمن وقف معهم من رجال المقاومة الحصة الأكبر فيما كتبت، فلولا كرم هؤلاء الرجال، لكان كل شيء خراب الآن، لهذا تليق بهم القصائد وكل ما هو مقدس ووجداني صادق”.
“عشاق تنين بالشارع ماشيين سرقو من الماره النظر/تنين ع بعضن مايلين عليهن الحب عم ينزل مطر/شب و جنبو صبيه العطر من حولن انتشر/الناس عم يتطلعوا حايرين وعيونن عليهن طايرين ما بيصدقوا انن بشر/وﻻ بيوم ببالن خطر يكونوا عالأرض شايفين الشمس عم تمشي حد القمر”.
يكتب بسام مخلوف القصيدة المحكية التي يجدها اقرب إلى وجدان الناس وضمائرهم، ويرى أنها والقصيدة المكتوبة باللغة الفصحى كلاهما تتكاملان في حياتنا الآن: “تلك لغة أبائنا وأجدادنا ووعينا وثقافتنا وفكرنا، وهذه لغتنا ولغة حياتنا ويومياتنا، التي نحب فيها ونكره فيها أيضا، نعشق ونفرح، وغيرها من المشاعر اليومية التي نعيشها في يومياتنا كبشر، وفي الحقيقة أنا استغرب تماما الدعوات للكتابة بهذه أو تلك، حيث أن الإلهام عندما يأتي وشيطان الشعر عندما يحضر، تصبح السطوة للمعنى لا للفظ، ويصبح الكلام حمّال جمال وقلوب ومسرات وأحزان، المحكية بنت الفصحى، والفصحى أم اللغات”.
بدأت قصائد بسام تأخذ سمعتها الطيبة والخاصة بين جمهور القراء والمستمعين الذين صفقوا لشعره يتلوه على منابر الحياة، لينطلق بعدها في عدة مشاريع شعرية إذا صحت التسمية، كان هدفها إثبات أن القصيدة الجيدة تحيا ويتناقلها الناس، حتى لو لم تكن محفوظة بين دفتي كتاب: “لا اعتقد أن المتنبي وأبو تمام والبحتري وقيس بن الملوح وعنترة بن شداد، وغيرهم الكثير من كبار الشعراء، قاموا بوضع دواوين لقصائدهم العظيمة، التي صارت على ألسنة الناس بمجرد أنهم ألقوها في هذا المحفل أو ذاك، ولا زلت اعتقد بأن أكثر ما اضر بالشعر، هو لهاثنا لوضعه فوق الورق، نخنقه بالتجليد، وندفنه بين أكوام الكتب “المكومة” بين رفوف المكتبات تصطاد الغبار، بينما المكان الطبيعي لحفظه هو عقول الناس وقلوبهم، وهذا ما حدث، فبعد أكثر من خمسين قصيدة، تناقلها العديد من أحباب الشعر، تم توجيه عدة دعوات لي من وزارة الثقافة لأماسٍ شعرية أقمتها في العديد من المراكز الثقافية التي اعتبرها شخصيا المنبر الأهم لشاعر المحكية، حيث التفاعل في أوجه مع الجمهور، الذي يعطي الشاعر انطباعاته عما قاله سريعا، فهو يفرح ويصفق طويلا لقصيدة أعجبته وحركت مواطن الجمال في دواخله، وتكفهر ملامحه إن لم يستسغ ما سمع أو لم يمسه ما انسكب في مسامعه من قهوة الكلام، وهكذا وبعد أكثر من عشرة أماسٍ شعرية، والعديد من الندوات التي كنت ضيفها في بعض البرامج التلفزيونية والإذاعية، وجدت أن ما كان في الأمس لهوَ محب مراهق، صار نمط حياة وأسلوب تفكير، الآن كل ما يشغل بالي، هو كيف اشتغل قصيدة بالسنارة قطبة قطبة كما تفعل السيدات اللواتي يحكن الحنان على شكل “كنزات” يرتديها أبنائهن وأخوتهن، ولا بد لي كل يوم من جلسة كتابة تمتد لأكثر من 5 ساعات، اختبر فيها العديد من المواضيع الشعرية، اكتب قصيدة ثم أمزقها، جاهدا لأكتب الأجمل، فالجمال وحده هو الحكم، جمال الصورة والموسيقا الداخلية وجمال السبك الذي يعطي القصيدة الأسلوب الخاص لكل شاعر”.
“جندي واقف بمحرسو متل اﻷسد ع خط النار/ ساحة الجبهة مسرحو عيونو عالعدو منظار/واقف ما بيغادر مطرحو وغير حب الوطن مالو كار”.
تمّام علي بركات