ترنيمة الحرب والحب في رواية “المفقود” لـ كيم اكلين
الحب كحالة حسية متأججة بكل ما يعتمل في الحنايا من اضطرام مشاعر وعنفوان الشباب وانفعالاتهم ومن جنوحهم وتمردهم هو السيالة التي تعبر بها كيم اكلين إلى عالم روايتها (المفقود) الصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع لعام 2016من ترجمة أماني لازار- وما الحكاية الرومانسية التي باشرت بسردها الكاتبة في البدء إلا الطعم التي التقطت به القارئ في الجزء الأول من سرديتها وسحبته إلى شباكها عندما اشتغلت على اللعب بالزمن السردي وبدأت من منتصف الحدث، والعودة منه إلى البداية ليستكمل في النهاية في أتون حركة المتناقضات بين الجمال والقبح بين النذالة والعدالة بين الرهافة والعنف، لرصد التضاد الحاصل النزوع الفطري الطبيعي عند الإنسان، وبين الواقع المرعب الذي يلقاه في اغلب بقاع الأرض وقد خبرت منطقتنا أشكال العنف والدم بما يفيض من الموت.
بين كمبوديا ومونتريال تتحرك شخوص الرواية التي دخلت كنسيم في روح المتلقي، حيث الحكاية الشفافة بالعشق بين البنت الكندية والشاب الكمبودي الذي تصفه بأنه الكائن الذي يخبئ مشاعره في أغنية ذاك الموزع بين عشقين، حبيبته ووطنه، ليعلو صوت الواجب ويعود إلى بلده وقضيته وأهله وينقطع الاتصال بينهما أحد عشر عاما، لتلحق به بعد ذلك مقتفية آثاره رغم محاولة والدها الوقوف بوجه العلاقة بينهما وإخفائه لرسائل الحبيب الغائب في تخوف الأب على ابنته الوحيدة من مغبة الارتباط بمجتمع تتناهبه الصراعات ويفتته الاقتتال وتجتاحه الجريمة لنكون معها جميعا أحد شهود الواقعة على تلك الفترة المظلمة من تاريخ كمبوديا حيث تركز الكاتبة على أهمية نقل الحقائق –(لم أعرفْ ماذا أقول. صرخ طفلٌ في الداخل، خلف الدرفات. سألتُ: ماذا في وسعي أن أفعل؟ أجابت: “أنا أريدك فقط أن تعرفي”) –حيث تشير أن يعرف العالم ماذا يحدث في هذه المنطقة المنكوبة إذ يصل التزوير والمغالطة إلى أقصاها تقول: (كيف باستطاعتهم ليلا أن يناموا بسلام زاعمين أنهم كتبوا الوقائع بينما هم لايعلمون) فأضعف الإيمان أن تصل معلومات حقيقية عما حصل للمفقودين والضائعين والمتضورين جوعا، والمهجرين خارج منازلهم والمقتولين بتهم لا يعرف إلا المولى جريرتها، كما تشير إلى ما تفعله الحروب والأزمات في تشويه وعي البشر وتعطيل إحساسهم ببعضهم، إذ تحكي “كيف لنا أن ننعم بالطعام بينما غيرنا وعلى مقربة منا يتضور جوعاً، كم من الأشياء ماتت فينا ليكون هذا الأمر اعتيادياً”.
في هذه الأجواء المضطربة تأتي آن الشخصية الراوية للحكاية لتلتقي حبها المفقود ولتعاود فقده ثانية بعد أن خطف وقتل ولم يسمح لها حتى بأخذ بقاياه وحرقها حسب الأصول، لتحل السكينة والسلام لروحه. هذا العنف الذي ساد في ظل جو قمعي لم يصلنا من أخباره إلا القليل، حيث تشير الكاتبة مرة إلى نظام بول بوت وفترة الخمير الحمر وتعدد الولاءات والارتباطات إلا الولاء للوطن.
إن رصد التجربة الكولومبية والحروب التي دارت في فلكها والإبادات الجماعية التي كانت تحصل هناك، تحتاج للكثير من التوثيق و التمحيص والتدقيق فما لم تتعمق وتشير إليه الكاتبة هو إضافة لنتائج الحروب والقتل والخطف هناك تساؤل مهم قي ظل تعطل أي نشاط اقتصادي، من أين يتم تمويل السلاح ومن هو المستفيد من تهتك أوصال البلاد والأيادي الخفية التي تستفيد من هذا الدمار. لم تتحدث عن أطماع البلدان المجاورة بثروات كمبودية وماسها.. لم تضعنا في جو الصراعات الإقليمية والدولية التي يدركها القاصي والداني كما ندركها نحن على أرضنا، في منطقة تتلاعب الامبريالية العالمية بالأحداث كمسرح عرائس تسحب خيوطه حسب مقتضى الحال هدوءا أو تصعيداً، وقد يقول قائل إنها لم تخض ولم تتناول السياسة، وإنما جسدت عذابات الإنسان وقهره، عشقه وضياعه.
تساؤلات الضحايا تسكن وجدان الكاتبة إذ هل للأم الحق في الغفران للرجل الذي ينتزع طفلها من بين ذراعيها؟ هل لليتيم الحق في أن يغفر لقتلة والديه، تساؤل بقي معلقاً ولكنها عبرت بشكل إيمائي في تفوق وجداني عالٍ للموسيقا التي تسمو فوق الأحقاد حيث هي المعادل القيمي المناقض للكم المرعب للمآسي والحروب والموت. (قلت: أليس غريباً كيف يذهب الناس إلى الحرب ويستمرّون في عزف موسيقى بعضهم البعض)؟
وقد أشارت الكاتبة في لقاء صحفي في خاتمة الرواية إلى معسكرات اوشيتز وتذكر حديثاً لأحد ضحايا الهولوكست في استثمار للمظلمة التي حصلت لليهود منذ عهود، علماً أن هناك مظالم وانتهاكات احدث منها وليس أولها ولا آخرها ما حدث في فلسطين.
تحضر الأساطير الهندوسية والكمبودية بكثافة في سردية الكاتبة كإشارة لبديل نفسي شبه وحيد في حمى العنف والاضطرابات والقسوة في لاوعي البشر كملاذ واحتماء من العجز والفناء (جاءت امرأة ذات يوم إلى بوذا تحمل ابنها الميت بين ذراعيها. طلبت منه أن يرحمها، وأن يعيد إليها ابنها. قال بوذا إنه يستطيع مساعدتها. «بداية»، قال، «اجلبي لي بذرة الخردل من عائلة لم تختبر الموت يوماً». بحثت المرأة من بيت إلى بيت. أراد الناس مساعدتها لكنّ جميع من قابلتهم خبروا الموت. أخ، أخت، والدان، زوج، طفل. بعد بحث طويل عادت المرأة إلى بوذا. قال: «أين ابنك؟». أجابت المرأة: «دفنته»)) معنى فيه إيحاء عميق عمن تهون مصيبته عندما يرى مصيبة غيره كما تزداد الأمثال الشعبية القائمة على الشك وسيطرة الخوف، لأن عهد حكم بول بوت أرسى عدم ثقة احد بالأخر لأن الكل مخبرين على الكل، والغريب تشابه الأحداث الواقعة في مرحلة زمنية سابقة في الجهة البعيدة من الكرة الأرضية مع ما يحصل في منطقتنا وكأنه سيناريو مرسوم يتم تكراره من أحداث الخطف والاغتصاب حتى المختنقين في شاحنة الهروب.. انقسام الولاءات السياسية حتى ضمن العائلة الواحدة حيث يقف الأخ ضد أخيه، الذل والهوان والمصائب المتلاحقة وهل للمصيبة هوان بعد كل هذا الهوان.
دعد ديب