حنا مينه كاتب الكفاح والفرح الإنساني في ملتقى السرديات
لم تكن مساحة المداخلات كبيرة في ملتقى السرديات الذي حمل عنوان “حنا مينه كاتب الكفاح والفرح الإنساني”، في ثقافي أبي رمانة حيث أخذت طابع التحليل والانطباعات لأدب مينه الذي وصل إلى العالمية من خلال الإغراق بتفاصيل المحلية، واتصف بالواقعية السحرية، وكان صورة عن واقع التاريخ السوري المعاصر بكل ما حمله من صراعات، فكانت محاور الملتقى الذي يشرف عليه د. عاطف البطرس ويديره الإعلامي جمال الجيش منتقاة بعناية أحاطت بجوانب متعددة من أدبه وحياته ومواقفه، لاسيما أنها ترافقت مع فيلم وثائقي أغنى المداخلات. كما دارت أغلب التساؤلات حول أهمية المسلسل الذي غيّر من مسار الدراما العربية “نهاية رجل شجاع”، وعلاقة الرواية بالسينما، وشخصياته الإنسانية.
صراع البحر
شغل الفيلم التوثيقي بعنوان”حنا مينه بطل الروايات” الذي عُرض في بداية الملتقى الحيز الأكبر، وتميّز بجمالية المكان الذي ينتمي إليه الروائي مينه، فكان البحر بما يحمله من أسرار وصراعات هو المحور الأساسي فيه، مبتدئاً من مقاطع من الأفلام السينمائية الروائية التي استُمدت من رواياته مثل بقايا صور، آه يا بحر، ليتوقف عند أهم المفاصل التي تلخص فكره في الدفاع عن الفقراء والبسطاء والمهمشين، والتصدي لظلم الإقطاع والنضال ضد الصراع الطبقي ضمن الأيديولوجيات الفكرية والسياسية التي حارب من أجلها، ليتأجج الصراع أكثر في الشراع والعاصفة الرواية الشهيرة التي حوّلتها كاميرا غسان شميط إلى فيلم بتقنيات عالمية، فتوقف الفيلم عند مشاهد الطروسي وصراعه من أجل الصيادين والنزاع مع القوى المسيطرة. وفي منحى آخر تضمن الفيلم لمسات رومانسية لومضات من حياته فصوّرت الكاميرا تلك المنازل البيضاء في لواء إسكندرون التي شهدت ولادة ذاك العبقري، إلى مشاهد من طفولته البائسة، إلى بعض لقاءاته وصور رواياته. وزاد من جمالية الصورة البصرية موسيقا الفيلم المنسجمة مع مضمون الصورة.
وجداننا الوطني
بعد الفيلم استهل الحديث الإعلامي جمال الجيش بالاشتغالات الروائية التي كانت معبّرة إلى حدّ كبير عن تفاصيل حياتنا في قرن كان الأكثر أحداثاً حروباً وأوجاعاً، لكن في الوقت ذاته كان الأكثر توقاً لحياة أجمل، وتابع عن حنا مينه الذي أصبح جزءاً من وجداننا الوطني، ووصفه بعلامة وطنية لإنسانية اشتغاله ولاتساع فضاء شخصياته التي حملت هماً إنسانياً عميقاً، والتي أعطت بعداً عميقاً للحياة في روايته”المصابيح الزرق”، وأوضح بأن الندوة ليست قراءات نقدية عن أدب مينه بقدر ما هي انطباعات ووقفة وفاء نحتاج إليها الآن أكثر من أي وقت مضى، لنعود إلى ذاكرتنا الوطنية والإنسانية والأخلاقية في هذا الوقت الذي للأسف سيطرت عليه ثقافة الاستهلاك الرخيصة.
سينما محدودة
“حنا مينه والسينما” كان أحد المحاور التي تناولها الملتقى من خلال مشاركة مخرج الفيلم علي العقباني، فأوضح بأنه حاول الإضاءة على جوانب هامة من أدب مينه، إضافة إلى التركيز على ومضات من حياته الشخصية والمهنية، وقد تمّ اختصار الفيلم إذ تضمن أيضاً شهادات لعدد من الروائيين والأدباء مثل د. راتب سكر، د. نضال الصالح، د. عبد الله الشاعر وغيرهم. الفكرة الهامة التي تطرق إليها العقباني هي قلة الأعمال الروائية من أدب مينه التي تحوّلت إلى أفلام سينمائية من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، لاسيما أنها تعكس واقع الصراع الطبقي، إذ اقتصرت على خمسة أفلام” “على الأكياس” المأخوذ من قصة قصيرة بتوقيع المخرج قيس الزبيدي، و”بقايا صور” لنبيل المالح، ومحمد شاهين الذي قدم فيلمين، “آه يا بحر وشمس في يوم غائم”، و”الشراع والعاصفة” الذي جاء بتوقيع المخرج غسان شميط”.
مغامرة السينما
وتابع عن الاختلاف بين الرواية والسينما من حيث السرد والحوار واللغة، فالاشتغال على نقل الرواية إلى السينما محفوف بالمخاطر والمغامرة ، إذ لايستطيع المخرج أن يصل إلى الصور التي يتخيلها المتلقي أثناء قراءته الرواية، ولا يستطيع المخرج أن ينقل كل الملامح من خلال شخوص محددة المعالم، وأشار إلى أن مينه لم يكن راضياً عن فيلمه”على الأكياس” لأن المخرج الزبيدي مضى به نحو المسار التجريبي، إلا أنه بعد ذلك وعى تماماً الفرق بين الرواية والسينما وترك الحرية للمخرج في تحويل رواياته إلى أفلام.
صور شتى
المرأة التي آمن حنا مينه بدورها الفعّال بالمجتمع وأكد جدارتها بأن تأخذ دورها إلى جانب الرجل كانت حاضرة في الملتقى من خلال مشاركة د. وجدان محمداه عبر موضوع “المرأة في إبداع حنا مينه” فبدأت بمقولتها عنه “إنها قضية أدب مثل البحر، إنها قوة البحر، أرى المرأة كما أرى البحر” فتحدثت عن صور المرأة العربية والأجنبية في رواياته، ففي ثلاثيته”بقايا صور- المستنقع- القطاف” نجد صورة المرأة تتمثل في الأم المسحوقة من الفقر والجوع التي يتركها زوجها، ليتشرد بالريف ويترك لها مسؤولية تربية الأولاد في بيئة ريفية ظالمة تحارب المرأة لإنجابها الإناث، لنكتشف أن هذه المرأة هي والدة حنا مينه التي تضرعت إلى الله ليأتي الصبي الذي جاء ضعيف البنية، وتوقع الجميع أن يموت، هذا الصبي هو الروائي العظيم الذي كانت والدته تحلم أن يصبح كاهناً أو شرطياً. وتوقفت الباحثة مطولاً عند ومضات حزينة في حياة هذه المرأة التي توسلت إلى الأب المسؤول عن المدرسة أن يسمح لابنها بالتعليم وهي تعيش في فقر مدقع، لتقابل هذه الأم المسكينة صورة زنوبا المرأة المتحررة المتمردة على مجتمعها وقوانينه والتي انخرطت بالعمل الثوري، إلى شكيبة المرأة التركمانية في “الياطر” التي استطاعت أن تحوّل بطل الرواية من نصف وحش إلى إنسان واع، وتأتي صورتها على النقيض من صورة صالحة زوجته، أما في”الشراع والعاصفة” فنجد أم حسن التي يغيّر الطروسي حياتها بعيداً عن ماضيها، لتقابلها صورة ماريا التي تسكن في المرفأ، إلى رندة في المصابيح الزرق التي ارتبطت بقصة حب مع فارس.
المرأة المتطورة
أما صورة المرأة الأجنبية فاتسمت بنظرة الاحترام في أدب مينه كما في رواية”البحر والسفينة وهي” فشخصية الفنانة التشكيلية المرأة السويدية توليب التي تتمتع بفكر متحضر وباتزان خرجت إلى ظهر السفينة لتشاهد مشهد العاصفة، في حين انهارت لويزة المرأة اللبنانية المتحررة، ليصل مينه من خلال الرواية إلى مطالبته بأن تعمل المرأة على التطور الفكري والحضاري وتؤسس لعلاقات معافاة ومنسجمة مع المعاصرة، وأن لاتكون عصابية.
الأشكال الفنية الجديدة
وتحدث د. عاطف البطرس الذي ارتبط بعلاقة وجدانية مع حنا مينه عن “دور مينه الريادي في الرواية العربية” فقدم انطباعات وملامسات إنسانية وجدانية تقارب النقد والسيرة الذاتية، فبيّن بأن أهمية حنا مينه ليست في تأسيس فنّ الرواية السورية ، وإنما في الموضوعات والأشكال الفنية الجديدة التي كانت مفاتيح لرواياته، لاسيما أنه خبر الحياة وعاش تجاربها المريرة، فتحدث مطولاً عن سيرة حياته منذ طفولته البائسة ومرضه وفقره، ليتوقف عند المرجعية الواقعية، المتخيّل السردي، والعناصر الجمالية، وحياة شخصياته التي تطابق تفاصيل حياته، إلى الشخصية الروائية التي تملك استقلاليتها ولاتتحول إلى بوق بل تمضي نحو طرائق تفكير لحل الصراع مثل شخصية الطروسي التي تشكّلت وفق إرادة البحر، فشخصياته ليست شخصيات ذهنية وإنما مصاغة من لحم ودم، ورواياته تتصف بالحكائية ليدخل عوالم قابلة للكشف والاستنتاج فزاوج بين المنظومة الأخلاقية والجرأة. وكانت عوالمه مفتوحة متعددة الأقطاب اخترقت حصار الجسد وحطمت الحواجز الاجتماعية ونقلتنا إلى فضاءات الحرية.
السيناريو كيان جديد
واختتم الكاتب حسن م يوسف محاور الملتقى فتحدث عن “حنا مينه والدراما” وعن العلاقة بين الرواية والمخرج على ضوء تجربته في كتابة سيناريو مسلسل نهاية رجل شجاع بطولة أيمن زيدان وإخراج نجدة أنزور، والذي كان بداية تغيير الصورة في الدراما العربية، فتحدث عن فهمه لبنية الرواية والسيناريو الذي يأخذ خواصه من النصّ الأدبي لكنه كيان جديد مختلف كلياً عن الرواية، وأضاف بأنه عمل على قوة التعبير من خلال الأحاسيس، وأشار إلى أنه أضاف شخصيات لضرورة اشتباك خطوط العمل التلفزيوني مثل شخصية أحمد، ثم استرجع عدة مشاهد ليحللها لاسيما مشهد النهاية، وأوضح بأن مفيد لم ينتحر وإنما مات بحالة صراع. ليخلص إلى أن كاتب السيناريو لايمكنه أن يغيّر كل شيء لكن يمكنه أن يؤوله.
مينه الأب
كما تحدثت السيدة سوسن ابنة حنا مينه عن علاقتها بأبيها، وعن صفاته كأب حنون عطوف يحب الارتباط العائلي، إلا أن حياته صعبة مثل كل العظماء ويترجم محبته بطريقة مختلفة.
ملده شويكاني