ثقافة

في ندوة ملتقى الفن التشكيلي.. الخط العربي من أرقى الفنون التشكيلية والتجريدية

كان من الضروري للقائمين على ملتقى الفن التشكيلي أن يسلطوا الضوء في ثاني ندوات الملتقى الشهرية والتي أقيمت مؤخراً في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة على فن الخط العربي، بعد غياب ليس بالقصير عن الحديث عنه في ندواتنا وبعد قلة أنشطته ومَعارضه ورحيل رواده، وذلك بمشاركة الباحث أحمد المفتي ود. محمد غنوم والخطاط عدنان شيخ عثمان.
وقد أكد الفنان أكسم طلاع المشرف على الملتقى على أهمية هذه الندوة وضرورتها لا سيما في الوقت الحاضر بعد أن عانى هذا  الفن بعض الإهمال من قبل وسائل الإعلام.

بين الموهبة والاكتساب
وما بين الموهبة والاكتساب في تعليم فن الخط ميّز عدنان شيخ عثمان في مداخلته بينهما، حيث أن الموهبة هي الاستعداد الفطري لدى فرد ما اتجاه اختصاص ما، أو هي الإمكانيات الخاصة قبل أن تدخل عليها المحاولات والتجارب، في حين أن الاكتساب هو الجهد المبذول لصقل الموهبة والارتقاء بها، وصولاً لتحقيق المهارة العملية في بلورة الإمكانيات الخاصة وإظهارها بأحسن ما يمكن.. من هنا أكد شيخ عثمان أن الخط باعتباره من أرقى الفنون التشكيلية والتجريدية لا يحلق بالممارسة، وأشار إلى أن طالب فن الخط الموهوب تلزمه فترة ليست بالقصيرة لاكتساب خبرة عملية من خلال محاكاة نماذج خطية لأستاذه المباشر، أو لأساتذة الخط المشهود لهم بالابتكار والإتقان، حتى إذا تبلورت في ذاكرته البصرية مئات الحروف وتشكيلاتها والتكوينات الخطية وطرائقها واكتسبت يده المهارة لتنفيذ ما اختزنته ذاكرته أضحى خطاطاً متقناً، وإذا كانت لديه موهبة نادرة دخل منطقة الإبداع دون استثناء وصار علَماً يشار إليه بالبنان، وأستاذاً بعد تلمذة مديدة وإماماً بعد امتداد، ونوه شيخ عثمان إلى أن الخط العربي قائم في ثلاثة أرباعه على المحاكاة الدقيقة للنماذج القوية، والربع الأخير نصفه مساحة الحركة والحرية التي من خلالها يضيف المبدعون إبداعاتهم ويبقى النصف الآخر خالياً لن يسبر أغواره أحد.

تذوّق جماله
وتحت عنوان تذوّق جمال الخط العربي تحدث د. محمد غنوم عن أسلوبين أساسيين في الخط العربي لو نظرنا إليهما لوجدنا جماليات متنوعة بينهما ولا اختلاف، لأن النبع واحد حيث لكل منهما تشكيلات تنضح بجمالية خاصة به، فالأسلوب الهندسي أو ما يُطلَق عليه باليابس أو الجاف والذي يضم مختلف أنواع الخطوط الكوفية والهندسية من مربعة وغيرها والتي تتسم بالهدوء والسكينة، وبذات الوقت بالصرامة والدقة في المقاييس، حيث الأوزان محددة وفقاً لميزان عادل بين أطوال الحروف وعرضها، وموزعاً المساحات والفراغات بحرص نادر، وقد تسير بعض التكوينات الخطية في هذا الأسلوب نحو معادلات جمالية تخضع لرياضيات بصرية، تجعل العين في حالة ذهول من إعجاز صبر الخطاط المبدع الذي يبني الحروف بناء معمارياً، وقد وضع لها أساساً متيناً ورصفت عليه الحروف ليشكل منها عمارة بصرية عربية. ولا يخفي غنوم أن بعض خطاطي هذا الأسلوب وجدوا أن التخفيف من الصرامة والدقة والحسابات الرياضية ليس بمستحب، فأدخلوا بعض الليونة فيه بتزيين الحروف والكلمات التي أبهجت الناظر وأغنت التكوين.
أما الأسلوب الثاني للخط العربي والذي تحدث عنه غنوم فهو ما يُعرَف باللين الذي يضم في جنباته خطوطاً أهمها الثُّلث والنسخ والتعليق والإجازة والديوان بنوعيه والرقعة، والتي تتحقق بأداة بسيطة نتناولها من ضفة نهر بلادنا وهي القصبة التي تطرب سمعنا عندما تكون ناياً، وتبهج بصرنا عندما تخط حروفنا بعد أن تتعامل أنامل الخطاط في تهذيبها وتشذيبها، وقد أخذ غنوم خط الثلث مثالاً عن هذه الخطوط ليبين أن كتابة حروف الثلث يتطلب تحقيقها ميزان الذهب الدقيق لتحقيق القيمة العالية له، والتي لا تتم إلا بعد تمرين وتدريب طويلين، ولا يستطيع الخوض في محيط حروف خط الثلث إلا من أتقن السباحة وتمتع بقوة البصر والبصيرة وهو الذي يشترط جمال الداخل والخارج، فهذا الخط برأي غنوم يفتح أبواب الجمال على مصراعيه سواء في رشاقة وأناقة الحروف والكلمات، أو في تكوين اللوحات التي تحقق التوازن البصري، وهنا تساءل غنوم: ألا يتوازن هذا الإبداع مع إبداعات عصر النهضة في أوربا؟ زنوه إلى اللوحات الخطية لعبقري بلاد الشام بدوي الديراني في تعانق حروف وكلمات لوحاته، بصعودها وهبوطها والتفافها على خلفية مزينة بتشكيل يجعل في اللوحة كمالاً فنياً أخاذاً، وكذلك مذكِّراً بخط الديوان الذي يصبو إلى الحرية هارباً من أسوأ القواعد والأوزان الصارمة، فيصعد ويهبط لمسافات كبيرة غير هيّاب من الوقوع في الحفر فيرقص ويغنّي ويشدو بحروفه التي تذهب يميناً متى تشاء وتعود يساراً عندما ترغب ثم تلتف وتتكور.

الحرف ولِد في سورية
وخُتِمَت الندوة بمداخلة قيّمة للباحث أحمد المفتي الذي تحدث مطوَّلاً عن أهمية الخط العربي في الحضارة العربية والإسلامية، إذ بيّن أن كل الدراسات التاريخية والآثارية تؤكد أن الحرف ولِد في سورية مع حضارة أوغاريت ووادي الرافدين، التي قدمت مكتبات معجمية كبيرة ضمت آلاف النقوش، وأشار في سرده الهام إلى الفرق بين الكتابة التي جاءت في عشرة آلاف سنة ق.م، وبين الخط  الذي ولِد متأخراً وكان المؤرخون يظنون أن الخط الهيروغليفي هو بداية الحضارة، إلا أن الدراسات الآثارية كما أوضح المفتي أكدت أن سورية مهد الحضارة، والحرف ولِدَ في شمالها وبلاد الرافدين، ومن خلال الحضارة السومرية بدأت الكتابة ليكون الخط الأول ليس الهيروغليفي وإنما السومري، وبيّن أن امتداد حضارة آلاف السنين كانت بحاجة لمفصل فكانت أوغاريت ذلك المفصل بين ما قبلها وما بعدها، وهي التي أبدعت أبجدية من 28 حرفاً لتكون هي وإيبلا وكل الممالك عبارة عن مكتبات لآلاف النقوش التي سجلت فكر وحضارة الإنسان، وذكّر  المفتي بأسماء عديدة كان لها دور كبير في تحليل الخطوط والكتابات القديمة أمثال ابن مقلة وأحمد بن وحشي النبطي الذي ألَّف كتاباً بعنوان “شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام” وهو الكتاب الذي استند إليه العالم البريطاني شامليون في فكِّ رموز حجر رشيد الهيروغليفية في مصر عام 1822.
أمينة عباس