ثقافة

أسئلة مقلقة

 

من الطبيعيّ والمطلوب، بعد انتهاء هذه السنوات العجاف من العدوان على سوريّة، الذي شاركت فيه أيد سوريّة، أن تكون مرحلة جديدة، تعيد بناء ما دُمّرَ، وخرّبَ، ليصبح أفضل ممّا كان، وأكثر تماسكاً وانسجاماً وحصانة. ولا أعتقد أنّ أحداً يشكّ في القدرةِ على تأمين متطلّبات ذلك من الجوانب المادّيّة، وبما يتعلّق بالبنى التحتيّة، والمعدّات والآليّات والعناصر… ولن تكون مشكلات عصيّة في تحديد الأولويّات والسبل والمشاركات.  ولكن من المهمّ، قبل كلّ ذلك، الوصول إلى الرؤى التي سيتمّ وفقها هذا الأمر؛ هل هي منفتحة واعية لتطوّرات العصر، ومتطلّبات الحياة فيه؛ بعيداً عن الحجب والمستورات والانغلاقات الداخليّة، التي تعيد سماتِ تخلّف، كان لزاماً السعي إلى تغييرها وتبديلها، حتّى لو لم تكن أزمة، ولو لم يكن عدوان؟!
لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك، كيف سترمَّم الأفكار والعقائد؟! وكيف سيعاد تشكيلها؟! وماذا عن الساح الثقافيّة، التي تشرذمت، وتبلّدت، وانكشفت عيوبها، وظهر ما كان مخفيّاً تحت أستار وتمويهات وتضليلات وتلفيقات..؟! ولم تكن رجالات الثقافة،في غالبيّتهم، مسؤولون وغير مسؤولين، كما يتطلّب الواجب والمسؤوليّة الوطنيّة والتاريخيّة والإنسانيّة.
لكنّ الأخطر من كلّ هذا، آليّات البحث في هذه المهمة، وكيف ستكون عليه الحال؟! ومن هم حَمَلَةُ المسؤوليّة؟! وما هو وعيُهم؟! وما هي خبرتهم وإرادتهم؟! وهل هم أنفسهم من سيعودون إلى تسيّد المركب، أو استلام الدفّة؛ من كانوا بلا موقف، أو بلا حول أو قوّة، أو رأي، أو مبادرة…؟!  وأيّ الجهات هي المسؤولة عن تحديد هذا؟!الجهات التي تركت الأمور تسير بلا غاية أو تعيين، أو تفرّجت عليها، وهي تغرق في الطمي، وكان تدخّلها -وما يزال- متأخّراً أو متردّداً أو شخصانيّاً؟!وأيّ المواقع مؤهّلة لتكون مشاريع رائدة؟! مع تأكيدنا المستمرّ أنّ الحلّ الثقافيّ، الذي قلنا به، ودعونا إليه، يُفترض أن يكون في مختلف الساحات والجبهات الثقافيّة وغير الثقافيّة.
إنّ فراغاً مروّعاً يهيمن في هذه الأحياز، نتيجة هشاشة ما كان من قبل، وضعف البنية والانتماء، وغياب المؤشّرات والملامح المبشّرة بالتحرّك في هذا الاتّجاه.
ولا يشغل هذا الفراغَ بجدّيّة موقفٌ هنا أو صوت هناك، ولا أداءٌ ما يزال يتوسّل الأساليب ذاتها، في المواقع عينها، وبالأشخاص أنفسهم، إلّا في حدود ضيّقة، وما تزال المناكفات والحساسيّات والمنغّصات ذاتها؛ من قلّة في الحضور والعنوانات المكرورة، إلى شخصنة القضايا والمواقف، إلى تكرار القول الممجوج، والفعل العاجز؛ولا يعني حضور هذا المسؤول أو غيره، على هذا المستوى أو ذاك، نشاطاً هنا أو فعالية هناك، أنّ الأمر تحسّن، أو أنّ النتيجة صارت أكثر جدوى.
ولم تستطع المؤسّسات أن تقوم بمبادرات خلّاقة على الأرض، لا بالشعارات والمنابر والملصقات..
إنّها فرصة نادرة، وإن كانت نتيجة كارثة ومآسٍ، أن يتأثّر الفكر المقدّس، الذي لا يأتيه الباطل من أيّة جهة، وكان مهيمناً، في مجالاته والمجالات الأخرى، وما فتئ يحاول أن يستمرّ، بشكل أو آخر، وفي مكان أو سواه، ومن المهمّ أن تهتزّ متونه في أذهان المتابعين، الذين بات كثير منهم قابلاً لتفكير جديد، يشغلهم، ويحفّزهم، ويشركهم ببناء ما هو قادم؛ إضافة إلى ضعف الحضور المقنع للأحزاب، وعدم قدرتها على النشاط الحيويّ الفاعل.. وقد تأثّرت أفكارها وأدبيّاتها هي أيضاً بالصدمة، التي طال زمنها، وأظهرت أنّ هذه الأحزاب الموجودة على الساحة منذ عقود، في كثير من أفكارها وحراكها وحواراتها، شاخت أو تكلّست، وأنّ محاولاتها خلال سنوات الأزمة- وهي ليست قليلة- على إعادة تفعيلها أو تجديدها، لم تكن مجدية؛ على الرغم من أنّ لبعضها تاريخاً عريقاً وفكراً مهمّاً، ينبغي العمل على إعادة النظر فيه بثقة وجرأة وشجاعة وإرادة.. أما الجديد منها فما يزال يتلمس سبله بتردّد وخفر، ويتوسّل مساعدة أو إضاءة من هنا أو هناك..
هي أسئلة تبقى مقلقة بلا صدى، غير صفيرِ الهوّات، التي خلّفتها انفجارات الأزمة، وجدبِ اليباب، الذي تكشّفت عنه الأيّام في غير ساحة وميدان:
ما نوع الثقافة الأكثر فائدة، التي يجب أن تَنشط وتُعمّم؟! ماهي الأفكار، التي يُفترض أن تثار؟! من هم القائمون بها أو عليها، الجديرون بهذه المهمّة؟!
الإجابات الجاهزة المعلّبة غير مقبولة، والتعليلات والمسوّغات لعدم التأثّر بهذا الموضوع والانشغال به، غير جديرة بإضاعة الوقت والجهد في بحثها، والاجتهادات الفجّة والذاتيّات والتصويتات الخلّبيّة كارثيّة، والشعارات واليافطات المألوفة فات أوانها..
فمن وكيف وأين ومتى…؟!
غسّان كامل ونّوس