فارس زرزور عندما يقول الأدب: التراب وطن
“عندما سجي “حسن جبل” على المنضدة الخشبية بجسده الذي يذكرك بأجساد الفرسان، كان وجهه هادئاً بجلده الأسمر المحروق، وتقاطيعه التي لم تستطع الشيخوخة أن تشوه جمالها، ارتسمت على وجهه المجعد سنواته الثمانون التي أمضاها مقاتلآ في سهوب الغوطة وبساتينها.. سجيناً ثلاث مرات في أيدي الدرك ورجال الجيش الفرنسي.. هارباً من سجنه وملاحقاً أينما حل..”.
وقصة حسن عند فارس زرزور، هي قصة الإنسان السوري البسيط الذي سارع إلى سلاحه؛ يرفعه في وجه جنود فرنسا الاستعمارية، هو الفرد الواحد في الحكاية ربما؛ لكنه أتى بالتأكيد كناية تصور حقيقة شعب عزيز، تتملك روحه القيم النبيلة بينما العقل يضج بوعي فطري؛ دفعه حينها وإلى الآن كي يتصدر السبق في اجتراح وقفات العز والكرامة. وحسن الفلاح البسيط، سجل حضوره التاريخي مواطناً حقيقياً، وصورة عن العديد من رجالات سورية من حسن الخراط إلى إبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش الذين صنعوا تاريخ النضال السوري، أبطالاً مناهضين ومقاومين للاستعمار، وبعيداً عن كل تعقيدات اللغة وبلاغات الأدباء، هو الصورة التي تقدم على أرض الواقع معنى البطولة، الوطنية والمقاومة؛ معنى التمسك بالتراب كي لا تسقط المدن، والتراب وطن.
“كان الشيخ حسن جبل عمي أبو زوجتي في حوالي الخامسة والستين من عمره سقط شعر رأسه وبقي في وجهه شاربان كثّان ولحية خفيفة، وكان رقيق الشفتين دقيق الأنف ولا يزال يلتمع في عينيه بريق وكان قد قتل “البيك” برصاصة من بندقيته؛ وقبل أن يقتله أقسم بالذي “لا اله إلا هو” أن يخرج بجنازته وقد خرج بجنازته فعلاً؛ مبراً بقسمه بعد أن ارتدى ثياب امرأة استعارها من امرأة عجوز وقد خبأته هذه المرأة في دارها عقب دفن الميت ولكنه لم يستطع البقاء طويلاً إذ خرج في اليوم التالي ليتوارى في كروم بلدة “الضمير” وبندقيته بيده.
– وكم رصاصة كنت تحمل يا عم؟
– بقي معي أربع رصاصات.
– وما هو نوع بندقيتك؟
– إنها بندقية عصملية أم رباط.
بين الدرس والعمل
في العام 1930 ولد الفارس زرزور، تلقى علومه الأولى في الكتّاب كسواه من أبناء جيله، ومابين العمل الذي اختاره له الأب في سوق البزورية؛ والثانوية التجارية التي حصل على منحة للدراسة فيها، كانت الكتب والقراءة هي الهوى، ابتدأها بألف ليلة وليلة وما انتهت بالقصص والحكايات الشعبية، وما إن اكتسب مهاراته في التعليم حتى مضى للتدريس في شمال البلاد، في العام 1949 يقرر الالتحاق بالكلية العسكرية ويتخرج منها ضابطاً، لتكون المعلم الأهم في صقل الأديب ومرحلة نتاج متميز، دفعت بالجواهري ليخاطبه يوماً “أنا لا أفهم كيف يصبح أديب قاص ضابطاً” مرحلة كان من أهم نتاجها “شجرة البطم” الشامخة في تل العزيزيات، والتي بقي الحنين إليها يعاوده كل حين يدفعه ليقطع المسافات كي يصِلَها.
أدب مقاومة
“في يوم من الأيام تساقطت أوراقها ورقة ورقة كالدموع؛ عندما شوهت الحرب قوامها، فثقب الرصاص صدرها وشقق لحاها، أما جذورها فبقيت متشبثة في الأرض “وحيث بقيت ولا تزال” منتصبة صامتة؛ وتل العزيزيات لم يفقد سوى قبضة من تراب أطبق عليها والدي بأصابعه؛ وظل يضمها إلى صدره الدامي وروحه تصعد إلى السماء” هي بعض من نتاجه الذي رسخه كاتب وروائي كبير، ورمز من رموز الأدب الذين أسسوا للأدب المقاوم، من خلال ثلاثيته “حسن جبل” التي ألحقها فيما بعد بروايته “لن تسقط المدينة” و”كل ما يحترق يلتهب” بينما أتت بقية أعماله تُكمل الحكايات، وتُرسّخها واقعاً وفكراً آمن به.
غزارة إنتاج ورحيل
في دمشق تشارك مع الشاعر الكبير “محمد مهدي الجواهري” العمل في مجلة الجندي، وعرف غادة السمان وسهام ترجمان، شوقي بغدادي وسعيد حورانية، وفي القاهرة التي أقام لمدة قصيرة؛ حيث تسنى له لقاء “نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس”، لتأتي مرحلة ما بعد الجيش هي الأغزر حيث أصدر “معارك الحرية في سورية” 1962، بعدها تأتي ثلاثية “حسن جبل ولن تسقط المدينة وكل ما يحترق يلتهب، الأشقياء والسادة”، بينما قدم “اللااجتماعيون في العام 1970، الحياة وخفي حنين في العام 1971، والمذنبون 1974،” ثم “آن له أن ينصاع” في 1980؛ رصد عبرها واقعاً حياتياً للفلاحين والعمال والمثقفين ارتبط بمراحل إنجاز سد الفرات وتطورها، وعدد آخر من الأعمال، ليرحل بشكل مفاجئ؛ في الرابع والعشرين من عام 2003 تاركاً مخطوطين حول “مذكرات فارس زرزور” و”الحصاد من مكان بعيد”.
سيعذرنا فارس زرزور كإنسان وكأديب، سيعذر التأخير في التذكر، ذلك أن مساحة الروح والذاكرة باتت تزدحم بالراحلين أهلاً وأحبة وأسماء كبيرة؛ هو واحد من رموز أدبها الواقعي، صاحب قلم رشيق، وحس مرهف، وقدرة على استجلاء مكنونات شخوصه، يحق لبعض نتاجه أن يُترجم إلى عدد من اللغات العالمية، وأن تكون نموذجاً يدريس بعضها في جامعات عالمية كفرنسا وإيطاليا وألمانيا.
بشرى الحكيم