ثقافة

بعد الانتهاء من كتابة ملحمته المسرحية عن حلب عبد الفتاح قلعه جي: ليس لي إلا أن أبكي أقدم مدن التاريخ!

كانت الحرب دائماً مادة غنية بالنسبة للكتّاب، فأنتجت الحربان العالميتان، وما تلاهما كحرب فيتنام، مذاهب واتجاهات جديدة في المسرح، فظهر مسرح العبث أو اللامعقول، والمسرح التسجيلي، والمسرح الملحمي، ومسرح الموت، ومسرح الغضب، وغيرها، لكن ذلك لا يعود، برأي الكاتب عبد الفتاح رواس قلعه جي، إلى الحرب فحسب، وإنما إلى مناخات الحرية في التعبير، والتصوير، والإبداع أيضاً، مؤكداً أنه ككاتب ليس في موقع الاستفادة من الحرب الدائرة في سورية، وكان يتمنى ألا تقع وألا  يستفد، لأن الكاتب لا يكتب على مائدة من آلام الناس والوطن، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الكاتب، في جميع الأحوال، في السلم أو الحرب، لا يملك إلا أن يكتب، وأهم نتاجات لوركا– مثلاً- كانت خلال الحرب الاسبانية.

معايشة الحرب صادمة للكتابة
< أنتجت الحروب في كل دول العالم أهم النصوص المسرحية، فهل تعتقد أن الحرب على سورية ستنتج نصوصاً مسرحية تؤرخ لها كما فعل الكثير من الكتّاب في العالم؟.
<< النصوص العالمية أُنتِجت تحت مناخات ملائمة للتعبير، وكانت في معظمها إدانة وشجباً للحرب، فالحرب امتهان وقتل للإنسان بدوافع غير إنسانية: اقتصادية، أو امبريالية.. إن غريزة التملّك هي وراء كل الحروب غير النظيفة، وغير العادلة، الحرب في سورية، ثم على سورية، مختلفة، والنصوص المنتجة غالباً ما تكون مباشرة، وهذه تنطلق في أطروحاتها من موقعها كطرف في الصراع، فهي في بعضها النادر قد تكون مقبولة أو جيدة فنياً، ولكنها غير صادقة، وغير نظيفة، وبالتالي ليست بذات قيمة، وبخاصة أن الكاتب المسرحي اليوم من المفترض أنه حامل الفكر الأصيل، لكنه مستبعد من لعبة المسرح بعد أن أزاحه عن موقعه المخرج، والسينوغراف، ومصمم الإضاءة، والكريوغراف، واستعاض سادة المسرح الجدد بالثرثرة الجسدية عن الكلمة في التعبير، ومهما يكن سيمر زمن قبل أن يكتب الأدباء، والباحثون، والمؤرخون عن هذه الحرب برؤية شاملة.
< ما الفرق بين أن تكتب وأنت تعاني من ويلات الحرب، وأن تكتب وأنت تتخيلها فقط؟.
<< المهم هو الإحساس الصادق والأمين، والتعبير بموضوعية منطلقة من فلسفة الحرب التي يمتلك المؤلف أطروحته الخاصة فيها، ولا فرق أن يعيش الكاتب أيام الحرب، أو يحسها في جوانيته، فالمعرفة ليست بالضرورة حسية، وأحياناً تكون معايشة الحرب والقتل والدمار صادمة للكتابة، ولابد من فترة تأمل واستغراق بعدها.. اليوم، وقد زرتُ جانباً من حلب القديمة وما حولها، ومساحتها تعادل نصف مساحة دمشق، وشاهدتها خاوية على عروشها، لا شيء إلا الموت، والدمار، والجرذان تعبث في البيوت، وما فعله القصف والحرب فيها يفوق ما فعلته قنبلة هيروشيما، اليوم لا أجد في نفسي معادلاً بالكلمات، مسرحاً، أو شعراً، أو قصة لما رأيت، وليس لي إلا أن أبكي بصمت مدينة هي أقدم مدن التاريخ في العالم.
< حينما كتبتَ في فترة الحرب مجموعة كبيرة من المسرحيات، أي هدف كان يقودك؟ هل كانت الكتابة مجرد تنفيس، أم أنها كانت وسيلتك لتوثيق ما يحدث؟.
<< لا يوجد في الكتابة الحقة ما يسمى تنفيساً، فالكتابة ليست سيجارة ندخنها، أو كأساً من الخمرة نشربه، فننفس عن حزننا وآلامنا، في البداية كنتُ أعيش وحيداً نازحاً في دار ابني بشارع النيل إلى أن دُمّر، وأصابني صاروخ زنيم، وكتبت قصيدة إثر دخول المسلحين إلى حلب القديمة هي أقرب إلى المَشاهد المسرحية بعنوان: “رباعيات الموت والحياة”، وفيها:
ماتت الحروف
والكلماتُ تُحتضر
فبماذا أكتب الليلة
والسماء تمطر شواظاً من نار؟
هذه حلب الحضارة، وسنديانة التاريخ!.
كنت أريد أن أكون شاهداً حياً، وموثقاً موضوعياً لهذه الحرب العبثية المجنونة، وكتبتُ العديد من النصوص، منها نصان من المسرح الواقعي محملان بالرمز، هما: مسرحية “على الرصيف”، وفيها أصور أرصفة حلب بعد النزوح، وكيف تحولت إلى أكداس من البسطات، والمارة، والسيارات، وفي كل ركن منها قصة محزنة، والثانية هي “سيرة مدينة”، وهي ملحمة مسرحية، المسرحيات العديدة الأخرى تقع ضمن دائرة التجريب على التراث، والواقع المرير، والحرب دائماً، أية حرب، ودواعيها، ونتائجها تشكّل إما محور موضوعاتها، أو جانباً منه، ومنها على سبيل المثال: مسرحية “الجد الأكبر، لا شيء في الحديقة، وليمة الشيطان، مقهى الجثث المعلّقة، الغائصون”.
< ما أبرز ما يميز الكتابات المسرحية التي كُتِبت في فترة الحروب؟ وما أبرز ما يميز كتاباتك خلال فترة الحرب بالتحديد؟.
<< ما الذي بقي من كتّاب المسرح اليوم؟.. تظهر أحياناً بعض العروض الهامة التي تتناول الحدث، وبخاصة لبعض الكتّاب الشباب، ثم لا تتكرر، ولكن معظم الكتابات والعروض هي كتابات وعروض آنية تنهض بغرضها الإعلامي، بالإضافة إلى توقف أو شبه توقف المسرح خلال الحرب، الكتابة للمسرح تحتاج إلى بحث عن الحقيقة، كما نبحث عن ابرة وسط الركام، وتحتاج إلى ضنى فكري، ثم إلى أسلوب مراوغ ليتجنب الكاتب التابوات، ويضمن لنتاجه النشر أو العرض، كما أن الحدث يجب أن يمر في فكر الكاتب بمرحلة تخمّر وإلا فسدت خمرة المسرح.
< تعتمد في كتاباتك عادةً على الأسلوب التجريبي، فهل استطعتَ أن توصل أفكارك في الفترة الحالية عبر هذا الأسلوب؟.
<< في مسرحياتي رموز شفافة قريبة تنشِّط وعي القارئ والمشاهد وتحترم عقله وحريته في المشاركة في اكتشاف الأشياء والمساهمة في إعادة إنتاج النص في جوانيته.. أنا لا أكتب لمتبلدي الأذهان وراغبي الفرجة الرخيصة.. غالبية ما أكتب ينتمي إلى المسرح التجريبي، مع تحقيق شرط الجماهيرية فيه، أما عن وصول أفكاري في هذه الفترة فيشهد على ذلك العدد الكبير من النصوص الذي قُدِّم لي على المسارح العربية، وأنا أتابع عروضي على مواقع الانترنت، وكثيراً ما يخاطبني المخرجون قائلين: هذا ما نبحث عنه وهذا ما يطلبه الجمهور الجديد اليوم، وبخاصة الشباب، والأمثلة كثيرة، والشباب في الوطن العربي اليوم يبحثون عن مسرح حديث ومستوى عال من الخطاب يحترم فكرهم ويحفّزهم على البحث والتأمل، وللأسف فإن أيّاً من مسرحياتي هذه لم تقدم في سورية، فالفرق والمخرجون البسطاء الكسالى إما يولِّفون نصوصاً بأنفسهم أو يبحثون عن نص تقليدي أو ساذج وبسيط.

سيرة مدينة
< أنجزتَ مسرحية تحمل عنوان “سيرة مدينة” وهي كما تراها تُعتبر ملحمة مسرحية عن حلب في الأحداث الدامية، فأية خصوصية لهذا العمل الكبير بالنسبة لك؟.
<< سئل أعرابي: أي أبنائك أحب إليك؟ فأجاب: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى، وما شعرتُ بحب بلدي قط بمثل ما أشعر به الآن وأنا أراه مريضاً تُساقِطُ الحمّى أعضاءه، وهو ينظر إليّ نظرة الواني المستغيث، فكان لا بد لي أن أترجم هذا الحب وتلك النظرة بعمل مسرحي ضخم أكون فيه شاهد عصر على ما كان وما يحدث الآن.. ونظراً لما عانيتُ من تعدد الأهوال ورعبها وما رأيتُه من ضرورة إعادة قراءة التاريخ فقد لجأتُ في العمل إلى موازاة فنية للأحداث تقوم على تعدد التقانات المسرحية من تسجيلية وملحمية وراوية للسرد والتعليق وتعبيرية وصورة، وذلك في إطار بحوثي النظرية حول التأصيل لمسرح عربي، معتمداً نظام اللوحات المسرحية ليكتمل المشهد الكلي لهذه المدينة التي تُعتَبر أقدم مدينة مأهولة في التاريخ.. هذا العمل أهديتُه إلى مدينتي الحبيبة وإلى كل عائلة مفجوعة عسى أن يعبّر عن معاناتها ويخفف من أحزانها.. تتألف “سيرة مدينة” من عشر لوحات، في كل لوحة تتم المزاوجة أو التداخل ما بين سيرة حب تاريخية وواقعها الدامي الحالي.. تبدأ السيرة من حلب المغاور والعصر الحجري مروراً باللوحات التالية بمحطات تاريخية عديدة منها: ريد حدد والغزو الأكدي، حلب يمحاض وزواج الأميرة شابتو، سيف الدولة ومجلسه الثقافي وطموحاته، القاضي ابن الخشاب ومواجهة غزو الفرنجة، محاكمة إبراهيم هنانو.. هذه المحطات التاريخية يكتبها المؤلف على الحاسب بناء على اقتراح روح حلب المتمثل أمامه بفتاة هي حلب نفسها ترتدي ثوباً ترابياً بلون غضار الأرض.. إنه يكتبها في مناخات وأجواء الحرب الشرسة التي نعيشها اليوم في مزاوجة بين حلب اليوم وتاريخها في منتهى الدقة والفنية.. كنت أتمنى لو أن هذه الملحمة المسرحية قد صدرت في وطني، ولكن الظروف شاءت غير ذلك وهي تحت الطبع في بلد شقيق.. اللوحة العاشرة والأخيرة من المسرحية تمثل التلاحم الرائع في جميع الأطياف والأعراق والمذاهب في حلب وهم يتحاورون ثم يغنّون معاً الموليّة الشهيرة، والمكان هو خان الوزير بحلب، ومن أبياتها:
عالعـين موليتين
عيني يا موليّـه
يا رايحــــــــــــين  لحــــلب           قلبي معكم راح
يا مشنشلين بالدهب         ردّوا السلام ليّه
وفي ختام المسرحية وبعد الانفجار المدمر في خان الوزير تنهض الفتاة (حلب) من بين الركام لتقول:
حلب لا تموت
أنا المدينة التي تنبعث من رماد الأرض
< مرت سورية بالعديد من الأحداث الكبيرة وقد عاصرتَ بعضها.. كيف تعامل كتّابنا المسرحيون مع هذه الأحداث؟ وما قيمة ما يُكتَب في الحروب من أدب؟.
<< من أهم النصوص التي كُتِبَت عقب الأحداث الكبيرة مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لسعد الله ونوس، وكان لهذه النكسة أثر كبير في أدبنا وفنوننا وكان نتاجها هاماً في المسرح والرواية والأدب والفنون، ومنها أيضاً النتاجات المسرحية الكثيرة التي عاصرت أحداث الثورات الوطنية ضد الانتداب الفرنسي، حيث قُدِّمت مسرحيات تحفز الشعور الوطني، وهناك أمثلة عديدة مثل مسرحيات “صلاح الدين، صقر قريش، مبدأ أيزنهاور، الاستعمار في العصفورية”.. وغيرها كثير، وكان المسرح آنذاك الرديف الثابت للنضال الوطني.. من الصعب أن يكتب المبدع أثراً خالداً عن أحداث كبيرة لم تنضج بعد ولم تتضح نهاياتها، وليس هذا هو السبب الرئيس فحسب وإنما أيضاً أن مثل هذه الفترات يصحبها فقدان الإحساس بالأمان بالنسبة للكاتب، فهل يستطيع المرء أن يتناول قلمه ويكتب وهو يجلس على سفح بركان متفجر؟.. مهما يكن فإني أرى اليوم أحداثاً كبيرة وفاجعة، ووطناً مهدداً، وما كُتِب حتى الآن ليس بذي بال، ونحن ننتظر.
أمينة عباس