“ستاتيكو” عرض مسرحي مشغول بماء العين وذهب القلب
ستون دقيقة من المتعة المسرحية الصافية حققها العرض المسرحي “ستاتيكو” الذي أخرجه وأعدّه الفنان “جمال شقير” عن نص لـ “شادي دويعر”، وذلك على خشبة مسرح القباني في دمشق، إنتاج وزارة الثقافة– مديرية المسارح والموسيقا.
“القباني” ضحك سنه كما يقال بعد أن انفرجت صالته رغم مساحتها الصغيرة قياساً بمسارح أخرى، على كثرة القلوب التي صفقت أيضاً بأكفها لما شاهدت من أشغال مسرحية محاكة ببراعة وعناية دقيقة بكل تفصيل، أو حركة، أو نأمة، صدرت وجالت ثم صالت بين الخشبة والجدار الرابع “الجمهور”، إذ رجعت إليه، ولو لبضعة أيام، نقاشات الصحب، وضحكات اللقاء النابت على جنباته بين جمهور اشتاقته ابتسامة “أبي خليل” المرحبة في بهو مسرحه، من صبايا وشباب، صخب وهرج ومرج مفرح يملأ الأرجاء، عادت إليه كما الأغنية “رجعت تسأل عني” لمعة المسرح الذكية والحساسة، الممتعة والصادمة، المضحكة والمبكية، في العرض المسرحي “ستاتيكو”، إن كان على مستوى النص الذي كتبه “دويعر” مزاوجاً بدهاء مسرحي مطلوب بين الواقعية غير المباشرة، والرمزية البسيطة والمركبة في آن، والتي تحتمل إسقاطات راهنة للإنسان السوري الآن وهنا، وأخرى للإنسان العالمي، مستمرة منذ بدء التكوين حتى اللحظة، عن: “الأنا”، و”الآخرين”، عن عملقة القدر في القضايا المصيرية كما في الهامشية، وقدرة الإنسان المتبدلة على مجابهة هذا المارد، عن الحياة والاشتباك المعقد لمصائرها مع مصائر الناس، اشتباكات قد لا تفضي إلى أية نتيجة حتمية، وربما أحياناً تفضي إلى نتائج لانهائية، كما الاحتمالات التي تدفع إليها، ولكن مع شرط قاس سيختبره صاحب الحظ الذي اختاره القدر ربما ليكون الأمثولة، فاللعب مع الموت ليس مزحة هنا، وللقدر كلمته الساخرة في النهاية!.
يحكي “ستاتيكو” قصة رجل أخذ قراره بالانتحار لأسباب شخصية كالحب الضائع بعد ست سنوات زواج، وخيبة الأمل بالأصدقاء والناس عموماً، وعمومية لها علاقة بالحال التي صارت إليها البلاد في سنوات الحرب، حيث انعدمت الأخلاق، ودخل الضمير في سبات عميق جراء الانعكاسات المرعبة ليوميات الحرب على من ابتلي بها، فموت الأطفال الفجائعي صار مادة للتندر، وملء فراغ ساعات البث التلفزيوني، وصفحات التواصل الاجتماعي التي راحت تتناقل مشاهد موت الأطفال لتسجيل النقاط على الآخر، كلٌ حسب مرجعيته، وكأنها تتناقل أغنية فيديو كليب، لا مشهد مريعاً لموت طفلة حرقاً بالفوسفور!.. يستعد “حكم” للانتحار وكأنه خارج في موعد غرامي، وعلى أنغام “كل ده كان ليه”- الخيار الخطير هنا نظراً لما يمكن أن تتركه هذه الأغنية من أثر ربما يخرج المتفرج من كل فضاء العرض وأجوائه عموماً- يعتني بهندامه ويتعطر، يزور مرآته ليمشط شعره ويشذب ذقنه التي استطالت، وبعد أن ينتهي يجلس إلى طاولته، ثم يخرج مسدساً وجده على مقعد في حديقة عامة، في إشارة إلى سهولة الموت الآن، وتوفر أدواته الأكثر فتكاً حتى في الحدائق العامة، يحشو مخزنه بالرصاص، ويستعد لتسجيل رسالة صوتية تؤكد انتحاره بسبب رفضه لكل هذه الصيغة البشرية العقيمة التي لم تتغيّر مفرداتها منذ آلاف السنين، إلا أنه وعند كل محاولة لإطلاقه النار على نفسه، يتدخل القدر ليوقف العملية، القدر نفسه الذي يجهد “حكم” لينزع زمام المبادرة منه على الأقل في شأن شخصي كالموت، هذا القدر يحضر حيناً عن طريق جاره الذي يقتحم حياة الرجل وخصوصيته بمفارقات كوميدية ذكية أداها الفنان “محمد حمادة”، ومرة أخرى من خلال “أمل” التي سيكون لوجودها تأثير كبير على سير الأحداث التي تتصاعد بدراماتيكية انسيابية تصل في النهاية إلى أن يقتل الجار “حكم” عن طريق الخطأ أو القدر هنا، وهذا ما سعى لأجله الرجل حتى في الموت الذي قرر أنه هو من سيختار توقيته وأسلوبه، في محاولة لفرض نفسه عليه، لكن القدر يسخر منه ويرديه قتيلاً لا منتحراً كما كان يرغب!.
عوامل عدة ساهمت في نجاح “ستاتيكو” وإقبال الجمهور أكثر من مرة لحضوره، منها الأداء التمثيلي البارع والمشغول بعناية ليكون قادراً على تجسيد الطاقة “الحكائية” العالية والممتعة للعرض أو روحه العميقة والمتقدة، التي كاد الجمهور يشعر بها، وكأنها مطر خفيف يلمس وجهه، أداء متنوع وطازج، تم توظيفه بتنسيق واضح الجهد بين الممثلين والمخرج وباقي “الكاستينغ” ليكون في خدمة الحكاية، كما ينبغي لفن المسرح، أيضاً الحوار البارع والرشيق الذي تبادله الممثلون على الخشبة، كما لو أنه كرة طائرة، تنتقل بخفة لها ما لها من الأثر الحسي غير المباشر والعميق أيضاً، دون الحاجة إلى أي شعارات من أي نوع، أو بهرجة لغوية لا معنى لها، ويستحضر الارتجال – بشقيه الحركي أو اللفظي- الطالع من روح العرض وسياقه العام، ولكن ضمن شرط “متى ولماذا”، فهو أي الارتجال ليس مجانياً هنا، وسيأتي متناغماً مع الحالة التي جسّدها الفنانون على الخشبة، حسب المشهد وظروفه الدرامية المتفق عليها أو الطارئة، كما حدث عندما اضطر مثلاً الفنان “الخوص” الذهاب إلى النيابة للسؤال عن آلة تسجيل الكاسيت التي كانت واحدة من أدوات العرض، والتي توقفت عن العمل بعد انقطاع الكهرباء، وكادت أن تفسد النهاية الرمزية برمتها، وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى صدفة غريبة وجميلة أيضاً تمثّلت بحضور كل من المدرستين الشهيرتين في المسرح “الستانسلافسكية و”البريختية” في العرض الآنف الذكر، الأولى بشكلها وأسلوبها الكلاسيكي الآمن، الذي اختاره المخرج في تصديه لإخراج عرضه المسرحي الأول، والثانية التي تجلّت وبالصدفة البحتة في حالة “كسر الإيهام” بسبب اضطرار فريق العمل إلى إيقاف طارئ للعرض بعد انقطاع التيار الكهربائي، واعتلاء المخرج الخشبة ليعتذر للجمهور عن هذا الانقطاع، مخاطباً إياه: “سنكمل لكم العرض على ضوء اللدات، وهذا ليس غريباً علينا، لذا سنريكم كيف كنا نتمرن في البروفات”، أيضاً حضور مؤثرات الحياة العامة بصخبها وعنفها وسأمها، بارتباكاتها المتغيرة والحادة، التي تصل حد الهستيريا أحياناً، وهذا الحضور غير المرئي، بل المسموع صخبه فقط، حققته ضربات عصا “سيمون مريش” الاعتباطية حيناً والمدوزنة حيناً آخر على “الدرامز” الذي بدا وكأنه في حالة حوار هوجاء مع “حكم”- أدى دوره ببراعة “كفاح الخوص”، وبانسيابية مع “أمل” أدت دورها بتكنيك محترف”نوار يوسف”، التي تناغمت حركتها مع الإيقاع رويداً رويداً، حتى استحالا واحداً، في مشهد أو حوارية رمزية كثيفة، كان لها ما لها من إسقاطات لن تخفى دلالتها على بال لبيب، تلك الإسقاطات الذكية والموظفة بحنكة في فضاء العرض، جعلت من الواقع الراهن مرتكزها، ولكن بلا فجاجة أو سطحية ومباشرة، حيث سيكون لذهن المتلقي ولخياله، أن يشارك في العملية الإبداعية الدائرة على بعد أنفاس أمامه، وهكذا اكتملت دائرة المتعة المسرحية المتوخاة من فن المسرح عموماً، فالعرض جاء، كما لو أنه حوار عام، حوار مفتوح على ما لانهاية وغير محسوم تماماً، كما الحياة وأحوالها القاسية التي نمر بها كسوريين وكبشر عموماً.
جمع “ستاتيكو” مرة أخرى بين النص والمشهد، اللذين غالباً ما فُصلا في القرن العشرين، الجمع الضروري الذي أكد أهميته “فيتز” عندما لاحظ أنه ليس هناك تفكير حول المسرح، منذ قرون، ولا تعليم للمسرح، لا يتأرجح بين هذين العنصرين اللذين يشكلان كل فننا، ويؤسسان تاريخه: النص والفرجة، كما كان لـ “التمازج” السلس والمشغول من “صماصيم” القلب كما يقال، بين بقية عناصر السينوغرافيا من موسيقا وإضاءة وديكور وأزياء، أثرها الحاسم، في تحقيق فرجة بصرية أليفة، حميمية، والأهم أنها مسرحية “بيور”، دون مزيد هرطقات لم يعد يحتملها المسرح، ولا بحال من الأحوال، ولو تحت بند التجريب، بعد أن أرهقته، وسببت هجرة جمهوره.
“ستاتيكو” من العروض المسرحية التي ستبقى في وجدان جمهور دمشق المسرحي طويلاً، لأنه ببساطة، فهم المتلقي وفهم تطوره وطبيعته وخصوصيته وحاجته إلى مسرح يعنيه، يخصه، يشعره وكأنه هو من يقف على الخشبة، وهو من يحمل هذه الصخرة التي اسمها الواقع المؤلم والثقيل على أكتافه، وفي ضميره يحمل ذاك الهم الإنساني الفلسفي والأخلاقي، الذي لم تتغير مفرداته مذ صار البشر أعداء أنفسهم أولاً، وأعداء بعضهم البعض، ثم أعداء الحياة عموماً، حتى دون وجود سبب عميق يستحق ذلك!.
تمّام علي بركات