ماما أمريكا
خلال القرن الماضي عرف الأمريكان قيمة الميديا، خصوصاً الترفيهية منها والتي تستقطب أكبر نسبة من الناس، فنشروها بشكل شبه مجاني حول العالم، كان الروس والأوروبيون عموماً لم يعرفوا هذا، ويقدرونه حق قدره، وبقوا غارقين في رومانسيتهم، وشاعرية صورتهم التي لم يلتفت إليها أحد، وكانوا ينتجون أفلاماً نخبوية لا تعجب 90% من الناس، الذين هجروها، وراحوا تحت ضغط الدعاية والإبهار البصري والقصصي الذي صنعته هوليود بدعم لا محدود من “البنتاغون”، يهجرون حتى ثقافتهم المحلية لأجل ما قدمته “ماما أمريكا”.
لقد أدرك الأمريكان أن عقل الشعب مثل عقل الطفل، أي أنه عقل بسيط بمجرد أن تعطيه شيئاً جميلاً وبسيطاً سيحبك، وسيتذكر دوماً أنّه يحبك، لذا جاء هذا الإعلام الترفيهي كأحد أقوى وأقذر الأسلحة التي تستخدمها بلاد العم سام ضد الجميع، فمن خلال الأفلام والمسلسلات والموسيقا لم يعد الأمريكان بحاجة لنشر جنودهم في أي بلد لاحتلاله و”أمركته”، عليهم فقط نشر أفلامهم ومسلسلاتهم فيه، وإذا تساءلنا كم هي نسبة من يكرهون الولايات المتحدة في العالم رغم كل فظائعها؟ “فسيكون الجواب محيراً فعلاً” اليابانيون مثلاً مولعون بالثقافة الأمريكية التي أهدتهم قنبلتين نوويتين، والحزب الشيوعي الفيتنامي بات ينظم دورات لرقص “الهيب هوب”، ودعونا لا نذهب بعيداً، ونسأل هل حقّاً نكره أمريكا؟ غالباً الإجابة هي لا، رغم أننا نعرف أن أمريكا هي سبب كل ما نحن فيه من بلاء.
اليوم لم تعد أمريكا بحاجة لصنع هذا الإعلام، وتوريده إلى الأمم والشعوب، فالاحتلال الثقافي الذي فرضته على العالم برمته، ليس بدءاً من الجينز، وليس أيضاً انتهاء بحرب النجوم، صار مؤسسة قائمة بحد ذاتها، وتعمل بقدر الدفع الذاتي، ولكن الموجه، وها هي البرامج الترفيهية الأمريكية، تظهر لدينا في المنطقة العربية كنسخة طبق الأصل عن تلك المعمولة في الغرب، ولكن مع فارق بسيط، هذه المرة نحن من يصنعها، ويشتغل، وينشغل فيها، والتوجيه متروك لأصحابها الفعليين.
من هذه البرامج برنامج “محبوب العرب” الذي انتهت النسخة الرابعة منه مؤخراً بفوز شاب فلسطيني باللقب، بعد أن تنافس مع شابين آخرين، أحدهما مواطنه “فلسطيني”، والآخر “يمني”، وهكذا تواجد على المسرح الذي صممه الأمريكان، وجعلوه واحدة من أدواتهم المهمة في احتلال الشعوب والأمم، فلسطينيان يغنيان لفلسطين المحتلة أغاني تعدها بالعودة والتحرير، في الوقت الذي تصدح فيه حناجر هؤلاء الشباب تحت أعين “ماما أمريكا”، الأم الرؤوم لإسرائيل التي تحتل فلسطين وتغتصب حتى هواءها، وفي الوقت الذي تقصف الطائرات الأمريكية شعب اليمن الحبيب بـ”التوما هوك” وغيرها من أسلحة الموت المحقق، يغني شاب يمنى إرث بلاد ذات الحضارة المجيدة في التاريخ، وأيضا برعاية “البيبسي كولا” أي أمريكا.!، ولا يبقى “إلا أن تدخل علينا أمريكا غرف نومنا، كما قال “الماغوط” وهي بالفعل دخلت.
هكذا تضمن أمريكا أن لا شيء سيحدث خارج إرادتها، فكل ما يجري في العالم حتى في فنون الشعوب صار برعايتها، وعندما تصبح الأحلام عصية على التحقيق إلا من قبل العدو، فطبيعي أن نرى أجيالاً لا تعي خطورة الموضوع أساساً، وها هي وبكل ما لديها من شعارات فارغة من مفهوم الوطن والمواطنة، ترتمي في أحضانها، أملاً بحياة أفضل “سيارة – سفر- شهرة- مال- نساء- سلطة أيضاً”، فهكذا هي صورة الحياة التي صدرتها أمريكا للشباب، الفئة الاجتماعية الأخطر والأكثر قدرة على التأثير في تطوير المجتمعات أو انحدارها، وعندما تكون الحياة في ضمير هؤلاء الشباب، هي بالمقاس الذي رسمته لهم “ماما أمريكا” وعندما تصبح فكرة الخلاص فردية بالنسبة له، لا علاقة لها بالآخر، فمن الطبيعي أن تبقى البلدان العربية المغتصبة، مغتصبة، والوعي العربي المحتل، محتلاً، ومن الطبيعي أن نرى ما يحدث من دمار مروع بشكله المادي والمعنوي في الشارع العربي، وكأنه أمر لا مفر منه أو لا قدرة على تفاديه ومواجهته!.
يقول “بريجنسكي” المنظر الخطير لفلسفة السيطرة الثقافية، في كتابه: “رقعة الشطرنج” ما يلي: “لم نكن نقدَّر السيطرة الثقافية حقّ قدرها كعامل من عوامل النفوذ العالمي الأميركي حتى أدركنا أهمية ذلك وفعلناه”، فبغض النظر عن موقف المرء من قيمتها الذوقية، فإن الثقافة الجماهيرية الأميركية تمارس جذباً مغناطيسياً منذ أكثر من أربعة عقود وحتى اللحظة، خصوصاً على شباب العالم الذين لم يعد لديهم من طموح سوى أن ترضى “ماما أمريكا”، حيث تحتل الأفلام والأغاني والبرامج التلفزيونية الأميركية ثلاثة أرباع السوق العالمية، الإنجليزية هي لغة الإنترنت، والنسبة الغالبة من الدردشة العالمية على الكمبيوتر تصدر عن أميركا، الأمر الذي جعل الأمريكيين يؤثرون على مضمون كامل التخاطب العالمي، ويتغلغلون إلى بنية المجتمعات لفهم خصوصيتها الثقافية، ثم العمل على نسفها من الداخل إلى الخارج، وهذا ما يحصل وعلى مرأى أعيننا، والسكوت المخزي للمثقفين العرب على هذا البلاء الذين أيضاً وضعتهم في “عبها” ماما أمريكا، وانتهى الأمر، إلا ما رحم ربي.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عندما كانت الثقافة العربية الحقيقية تعمل على التحذير من الرزوح تحت وطأة الاحتلال الثقافي الأمريكي، ظهرت موجة من الذين استخفوا بالأمر، معتبرين أن الثقافة العربية محصنة، على عكس الاقتصاد، أو السياسة، اليوم وبعد ما جرى من تخريب لحاضرة الثقافة العربية “العراق”، وما جرى ويجري في العالم العربي برعاية أمريكية لا شك فيها من موت ودمار، المفروض أننا يجب أن نحاربه ونحارب مقولته، ونرى وجهه القاتل والدموي على حقيقته، صار أيضاً ما قاله “بريجنسكي”.. يمكن العثور على خريجي الجامعات الأمريكية ضمن التشكيلات الوزارية في جميع دول العالم تقريباً، حقيقة قائمة، الثقافة الأمريكية بأبعادها تحتل العالم، حتى في الضمير العميق لعالمنا العربي للأسف الشديد، وأية محاولة للعمل ضد هذه المنظومة الخطيرة ومن كل الجوانب مكتوب لها الفشل سلفاً، وبعداوة من القريب قبل الغريب، وهذا بالضبط ما يريده العم سام، أن نكون عبيده طائعين وراضين بما قسمه لنا، وإذا أردنا الاحتجاج والاعتراض ومحاولة تغيير هذا الواقع، جاء من بني الجلدة من سيحارب أخاه، وابن عمه، وحتى ابن حيه في هذا، كرمى لخاطر “ماما أمريكا”.
قال أبو الطيب المتنبي:
وإنّما النّاسُ بالمُلُوكِ ومَا تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُها عَجَمُ
ترى إلا ينسحب ما قاله “أبو الطيب” على مختلف المناحي الأخرى في حياة المجتمعات كافة، كالمنحى الثقافي، والاجتماعي، والفكري، وحتى الإنساني؟.. كيف يمكن أن يفلح فكر عربي طالما أن نهجه “عجمي”؟.. كيف؟!.
تمّام علي بركات