ثقافة

“عزيزي المسلّح”

سلمى كامل

قرأت مقاطع من مقال، كتبه الراحل نزار قباني، ونشره في مجلة الحوادث عام 1977 في لحظة استعار الحرب اللبنانية، ولولا التاريخ الذي دوّن على الصفحة، لقلنا: إن  الشاعر ما زال حياً بيننا، وقد نشره البارحة لتوصيف الحالة السورية، والتي تدخل عامها السابع  مع انطلاق – الثورة العظيمة – في الخامس عشر من آذار عام 2011، وحمل المقال عنواناً: “عزيزي المسلّح”.
النص عبارة عن مونولوج  داخلي، ونص نثري عميق، كتبه شاعر مبدع،  ليس للحظتنا الراهنة، ووجعنا الجديد، بل لحالة مشابهة اقتتل فيها الإخوة، وغرق في وحلها القريب والبعيد.
يقول الشاعر:
عزيزي المسلّح: “ليس في نيتي أن أناقشك أو أحاسبك، ولكنني اكتفي بسؤالك، هل أنت سعيد بما فعلته، وهل ساعدك هدم بيتي على تعمير بيتك، وهل أدى موتي إلى إطالة حياتك”.
وإذا كان جوع أطفالي قد أدى إلى شبع أطفالك، فإنني أعتبر التعويض عادلاً، ولكن جردة سريعة لحساب هذه الحرب تثبت أن خسارتك كانت تعادل خسارتي، وموتك بحجم موتي، وفي هذه الحرب تساوينا في الهزيمة، وتساوينا في عدد قبورنا وعدد موتانا، فهل كانت المساواة  التي نحلم بها أن أسلّمك جثة، وتسلّمني بالمقابل جثة، وبدلاً من أن يزداد عدد أولادي، وعدد أولادك، ويكبر الوطن، قررنا أنت وأنا أن نقطع ذرية هذا الوطن، ونذبح أطفاله، ونرميهم في البحر.
أرجو ألّا تتصور أن مستقبلك لا يشغل بالي؟ ماذا ستعمل وأين ستعمل؟ لقد أعطتك الحرب العبثية سلطة استثنائية تتجاوز سنك وموهبتك وثقافتك وإمكانياتك، أعطتك سلطة المعدن البارد، وبهذه السلطة المعدنية استطعت أن تقلب كل المعادلات، وتلغي كل الحدود بين الممكن واللا ممكن، الشرعي واللا شرعي، كن فسيكون؟.
إن رؤية الشاعر الكبير قباني لوضع المسلّح – وكان سابقاً لبنانياً، وهو اليوم سورياً – فيها من العمق والتحليل ما يعجز عنه حتى الطبيب النفسي، فهو قلق على مستقبله، وماذا  سيعمل، وكيف يمكنه أن يعود إنساناً سوياً بعد أن امتلك سلطة السلاح، وهذه مشكلة عميقة جداً تحتاج إلى الدراسة من قبل الأطباء النفسيين وعلماء التربية والاجتماع والسياسيين، ففي إحدى ورشات العمل عن الأزمة السورية التي شاركت فيها في بيروت، قال المدرب أو الميّسر، كما يسمونه في الورشات: إن التحدي الحقيقي للأزمة في سورية هو اقتصادي قبل أن يكون سياسياً، فهناك عدد كبير من الفصائل المسلحة، وهي تضم أكثر من مئتي ألف مسلّح، وهؤلاء يقبضون رواتب كبيرة، وإذا تركوا السلاح ماذا سيعملون، وهل يمكن خلق فرص عمل لهم، وكيف سيتم استيعابهم في المجتمع؟. وعطفاً على هذه الفكرة، أو إغناء لها، فقد روت لي صديقة بأنها ذهبت لتفقد بيتها في حي قريب من دمشق جرت فيه مصالحات، وهناك كما قالت عالم آخر لا ينتمي للمجتمع الذي نعرفه، فالشباب والأطفال الذين لم يتجاوزوا الرابعة عشرة من عمرهم يحملون الأسلحة، ورزم الدولارات، وإذا نجحنا في جمع الأسلحة من هؤلاء المسلحين،  فمن أين نأتي بالدولارات لهم؟!.
لقد لعب المال السياسي، ولايزال، دوراً كبيراً في إزكاء الحرب على سورية، السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والإعلامية، وللأسف، فقد تحول الموضوع إلى بازار، الغلبة فيه لمن يدفع أكثر، ومن يقبض أكثر، ليس على مستوى الأفراد فقط، بل على مستوى الدول والرؤساء أيضاً.
تسعى الدول الغربية لفرض مشروعها السياسي للمنطقة من خلال تنظيماتها الإرهابية التي تمارس كل أنواع التطرف والإرهاب العسكري، والفكري، والسياسي، وهدفها ليس الانتصار على السلطة أو الأنظمة وحدها، بل تدمير بنية الدولة بكل مكوناتها الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعسكرية، والمؤسساتية، ومن الاستانة إلى جنيف “4”، إلى كل محطات ومنصات الحوار السوري– السوري،  وإلى كل المصالحات التي جرت، تبدو الدولة السورية وكأنها تطبّق رؤية الشاعر نزار قباني حين يخاطب المسلح قائلاً: “إن كرسيك على المائدة مازال خالياً، فاترك بارودتك خارج الغرفة، واجلس معنا، فلدينا خبز كثير، وحب كثير، وقصائد جديدة سأنشدها لك عندما نلتقي”، فهل يستجيب المسلح لنداء الشاعر بترك السلاح، والعودة إلى أحضان الوطن ليتقاسم الخبز مع إخوته في هذا الوطن؟!.
حتى الآن، وأمام كل ما يجري، يبدو أن الأمر يحتاج إلى اجتراح معجزة، وبانتظار ذلك نقول: إن الأمل والإيمان بسورية مازال يملأ قلوب ملايين السوريين الذين يدافعون عنها بالأدوات التي يملكونها، والتي تصل إلى أعلى درجات الإيمان، وعلى رأسها الشهادة.