“براسكوفيا حرة”.. أصول الفرجة المسرحية المتقنة -الممتعة
دروس هامة قدّمها العرض المسرحي “براسكوفيا حرة” للجمهور بمختلف شرائحه الفكرية، وحتى للمشتغلين في المسرح كما اعتقد، إلّا أن أهم درس قدّمه العرض المأخوذ عن مسرحية “مكان مع الخنازير” للكاتب “أثول فوغارد” هو إعادة توصيف، وشرح مفهوم جوهر المسرح الذي يمكن اختصاره بـ “نحن جميعاً هنا- سواء كنا على الخشبة، أو على الخشبة المقابلة”، لكن بتقنية جديدة تعتمد على أن ما يجري على الخشبة هو الواقع الذي يعنيك الآن أيها المتفرج، ليس الواقع بصفته أحداث تجري، بل الواقع بصفته فكرة مناسبة، ملائمة، هذا وقتها، لذا فعندما تكون هذه الفكرة مناسب زمنها، يصبح واقعها المُشخَّص، هو اشتباك حقيقي مع اليومي والراهن الطازج، وهكذا تتحقق “راهنية” العرض المسرحي، بمناسبة الفكرة وملاءمة زمنها، لا بالنقل الحرفي لما يجري في الواقع، أو بعض منه إلى الخشبة! هذا الجوهر الذي حقق في ماضي المسرح الذهبي، وحدة شعورية حسية مع الجمهور، بغض النظر عن المدرسة التي ينتمي إليها العرض- كعموم عروض مسرح الشوك مثلاً التي هي راهنية الآن رغم عمرها الذي فاق الـ40 عاماً! – ولأن الجمهور يحب المثال البارع الذي يقول له: “أنت أنا”، فقد أحب العرض السالف الذكر، وهذا بالضبط، أي “المثال” هو ما يتفنن المسرح بتقديمه في الحكاية التي يحاكيها، والتي يختار زمنها ومناسبتها بعناية، لا بفجاجة ومباشرة ذاهبة نحو التكرار السمج لحديث الشارع، بل ببراعة فنية مسرحية، تضع ما يجري على الخشبة، وبانسجام شديد في وعي المتلقي، سواء المادي الحاضر الموجود الآن بوعيه الحالي، والغائب في اللاوعي مع الأحداث والأفعال المهمة الغائبة التي شكّلت ذائقته، والتي يشارك استنهاض الإحساس بها أثناء حضور العرض المسرحي، بتفعيل قيمة الجرعة “المتعوية”، التي يشعر من خلالها المتفرج بأنه منسجم مع كينونته ومحيطه، لا منفصل عن نفسه وما حوله، فهو كائن اجتماعي، وحاجته عليا، ومهمة للجماعة، ومفردات حضورها في وجوده ككل، ومن هذه المفردات الهامة، يكون الفن عموماً والذي أهم أحد فروعه المسرح، وهذا ما فعله “براسكوفيا حرة”، قدّم الحكاية المسرحية بمتعتها الخاصة والعامة، فجاء وقعها أليفاً في النفوس، كما لو أنها بيت شعري رشيق ومسبوك بإحكام على شكل حكمة مقنعة ومكتملة، وهذا ما جعل فن المسرح عموماً، هو فن الناس الخاص، وملاذهم الحقيقي الذي يحقق لهم المتعة أيضاً، بغض النظر إن كان العرض تراجيديا أم كوميديا.
إلّا أن هذا الجوهر على بساطته، ما لبث يتراجع فهمه على حساب زيادة “الفذلكة” باسمه بحجة التجريب، حتى دخل المسرح في أزمة، عندما بدأ يبتعد عن هذا الجوهر البسيط والعميق بآن والصعب التحقيق، إلّا للمبدع الحقيقي الذي سينصف الجمهور والتاريخ فيما بعد عمله، لا سعاة بريد المكاتب الصحفية، وصفحات التواصل الاجتماعي!.
العرض الذي رعته مديرية المسارح والموسيقا – وزارة الثقافة، وحققه لخشبة المسرح القومي في الإعداد والإخراج الدكتور “فؤاد حسن” وعلى الخشبة كل من “لميس عباس”، و”أسامة جنيد”، لم يفز بتصفيق الجمهور ورضاهم فقط، بل فاز بمحبتهم، بصمتهم وإصغائهم العميق لكل نأمة صدرت من “العلبة الإيطالية” في العرض الآنف الذكر، العلبة التي ضمت جدرانها الثلاثة فرجة مسرحية ممتعة وشاقة، أعادت بما ظهر فيها من تجانس عالي المزاج بين عناصرها الفنية، وما قدمته من أشغال مسرحية صافية في الأداء والإيقاع العام للعرض، أعادت إلى البال ليالي مسرح الحمراء الذهبية، فالديكور البسيط والمدروس– على سبيل المثال هنا، والذي توزع بعناية بالغة في مساحة الخشبة من عمقها حتى مقدمها، ومن أقصاها إلى أقصاها، لم يأت بغرض الإبهار المسرحي – كما العديد من العروض المسرحية السابقة، التي تخلت في الفرجة التي قدمتها، عن مفهوم جوهر العرض المسرحي، فسقط شكلها بسقوط مضمونها- بل جاء من روح القصة ولخدمتها، لا ليباريها على البطولة، وذلك بتحقيقه لشروطها “الزمكانية”، إن كان في الشكل أو الفكرة، وهذه هي وظيفته كديكور، وهي ليست بالوظيفة السهلة أبداً، لأنها إما تساهم بفاعلية في نجاح العرض أو سقوطه، لذا ربما يستخف به بعض من يجهلون خطورة دوره وأهميته، وهم لا يعلمون أنهم يستخفون بأنفسهم وبالجمهور الذي لا يستخف به أبداً، ولا يمكن “بلفه” بالضجيج الإعلامي، بل بما يشاهد، ويرى، ويسمع.
يحكي العرض الذي سبق، وقدّم على خشبة مسرح الحمراء أيضاً عام 2008 من قبل فرقة “مسرح أبعاد” المغربية، قصة “بافل” الجندي الهارب من المعركة والمنعزل في مزرعته الصغيرة مع زوجته “براسكوفيا” المنشغلة على الدوام في أعمال البيت، ورعاية الأبقار، والخنازير مصدر رزقها، وكان “بافل ” قد أمضى عشر سنوات مختبئاً في هذا المكان القذر برفقة الخنازير حتى كاد يشعر أنه لا يفرق عنها، يخشى الزريبة خوفاً من القبض عليه، ومحاكمته بتهمة الخيانة، والتخلي عن أداء الواجب الحربي، وبالتالي إعدامه عسكرياً.
كان للإعداد المتقن للنص الذي قدّم مقترحه د. “فؤاد حسن”، وأيضاً لاشتغاله المتوازن كمخرج على أداء الممثل، وانسجام هذا الأخير مع طبيعة الأداء الذي تحتاجه الحكاية، بتقنياته التمثيلية الخاصة، التي يمتلكها الممثل المسرحي دون غيره من ممثلي السينما والتلفزيون، وطاقته الذهنية الحاضرة والصافية والتي تكون بمثابة “كونترول” على أدائه، كان لهذا الإعداد والأداء بالإضافة إلى الموسيقا والإضاءة اللتين تكفلتا بانسجامهما مع باقي العناصر الفنية، بتأمين المناخ النفسي المناسب للمتفرج ولفريق العمل سوية، الأثر الحاسم لتسير العملية الإبداعية الفنية التي يخلقها المسرح مع جمهوره على خير ما يرام، بحيث لا يصبح زمن العرض ثقيلاً على المشاهد مهما بلغ طوله، رغم أن “براسكوفيا حرة”، راعى هذا العنصر الخطير بعناية بالغة، إن كان بزمن العرض المنضبط ككل، والذي امتد قرابة الـ 45، أو في زمن التداعيات الشخصية “المنولوجات” التي أداها “جنيد” والتي لم يطل زمنها لتصبح مملة، رغم بعض التفاوت في أداء الممثل،أيضاً ساهم الحضور الرشيق لـلممثلة المسرحية العائدة إلى خشبة المسرح بعد غياب”لميس عباس” بأدائها البارع والمنضبط، بإعطاء زخم حسي متوازن لأحداث الحكاية وتطورها.
لم يحتج العرض المسرحي الهام “براسكوفيا حرة” ليلج إلى قلوب الجمهور، ويمس شغافه، ويمتعه، لأي ضجيج إعلامي متنوع ترافق معه، لا خلال فترة التحضير له، ولا أثناء عرضه، أو بعد تقديم أحد عروضه، لكن من حضره من الجمهور، وقف بمهابة، وصفّق بقلبه أيضاً للعرض الذي احترمه، وفهم ذائقته، وحاجته الآن لفن خالص ونقي، دون مزيد هرطقات وبدع، لم يسأمها المتفرجون فقط، بل وهربوا منها، وكادوا يهجرون هذا الفن الراقي بسببها.
تمّام علي بركات