ثقافة

لا تصدقي إلا رسائلهم

تمام بركات

صورة فوتوغرافية مأخوذة بكاميرا “الموبايل”، ليست ذات جودة عالية من حيث دقة “البيكسل”، لكنها وخلال ساعات قليلة، سرت كالنار في الهشيم فوق صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائط “السوشال ميديا”، صورة لمجموعة من الجنود السوريين وهم يسجدون على الأرض، مشكّلين بأجسادهم وتموضعها عبارة “ست الحبايب” العبارة الشهيرة التي يصف بها السوريون “الأم” “ست الحبايب”، ويا لبلاغة الوصف، ببساطته وعفويته وصدقه، بل حتى في سكبه لغوياً وكأنه نغمة فرحة!.

الصورة التي قام هؤلاء الرجال -الموجودين في واحدة من جبهات القتال المستعرة-، من خلالها بمعايدة ليس أمهاتهم فقط، بل كل الأمهات السوريات في يومهن العظيم هذا، تمّت مشاركتها لأكثر من مليون مرة في هذا اليوم ومناسبته، اليوم الذي كان يمرّ على الأسرة السورية كواحد من أجمل الأيام المنتظرة من عام إلى آخر، فما من بيت من بيوت سورية إلا ورائحة الألفة تنتشر من نوافذه في هذا اليوم، فقيراً كان أم غنياً، لكنه أي “يوم الأم”، ومنذ دهور بحساب اللوعة والفقد لا بحساب الروزنامة، صار يمرّ عليها الآن وكأنه كوكب ثقيل يجثم على الصدور، فما من قلب أم سورية إلا وفيه غصّة أليمة تتفاوت درجات قسوتها من سيدة لأخرى، حسب الوجع الذي قدّمته لهن سنين سبع عجاف، سنين قاسية لم تنصرف وطأتها عن القلوب جميعاً بعد، فما بالنا بالقلوب التي جدرانها من نور وأوردتها مطرزة بألوف الصباحات الندية، هذه القلوب وحده الله يعرف ماذا حلّ فيها، بعد أن قام بتخصيص صندوق بريد يبقى بقربه، وهو أي الصندوق خاص بدعواتهن “إن هذه الدعوات ورسائل الصدور التي يغلي فيها الحب والخوف والحزن والألم، لا تتوقف لا صيفاً ولا شتاء لا فجراً ولا مساء، لا في الصحو ولا في النوم”.. هكذا سُمع أحد الملائكة الموكلين بفضّ الرسائل، يتذمّر من كثرة العمل، ووحده الله لن يخذلهن بتغطية ابن وقع عنه الغطاء بعد أن غفا، وآخر جاع ونام على لحم بطنه، أن يشبعه من رحمته، وذاك الذي صار نجمة، أن يرحم قلبها فيرسله إليها، ليزورها في الحلم، وحده الله صندوق بريدهن المستعجل الذي لا يكلّ سعاته عن العمل حتى في أوقات البكاء!.

بالعودة إلى الصورة الشهيرة التي صارت حديث الساعة، وبعد أن نظرت إليها طويلاً وكأنني أحدّق في معجزة وهي كذلك حقاً، فيمكن القول وبكل تأكيد: هؤلاء الرجال ينحنون في هذا المقام وهنا فقط، لأجلكِ، كرمى لعيونك التي نظرت إلى من رحل منهم، ومازالت تقول”الحمد لله فدا سورية”. لا تصدقي أن ثمّة من في الدنيا أو في مكان آخر، يفعلون لأجله، كما فعلوا في يومك المجيد.

لا تصدقي إلا رسائلهم، تلك التي يوصون فيها رفاقهم إذا شعر أحدهم بدنو الأجل: قل لأمي…لكنّ تحنى الهامات،

وفيكنّ تشمخ القلوب، وبكنّ تدوم أيضاً الأيام ويستمر الأبد، أمهات سورية العظيمات الكريمات الحليمات، هؤلاء الرجال الذين يضع العالم رأسه عند أقدامهم، ينحنون في هذا المقام، لكنّ ولأجلكنّ فقط تلمس رؤوسهم الجبال، تراب أرجلكن الطاهرات.