ثقافة

“اختطاف” تبدأ اليوم عروضها اليوم أيمن زيدان: عيد المسرح شبيه بعيد الفقراء لا يثير البهجة

لم يقطع صلةَ رحمه بالمسرح الذي يعشقه فعلاً لا قولاً، ويكاد أن يكون النجم السوري الوحيد الذي لم ينقطع عن خشبته ليطلّ بين فترة وأخرى بأعمال بتنا ننتظرها بفارغ الصبر، لأنها تروي فينا حاجاتنا لمسرح يشبعنا متعةً ومعرفةً، وها هو اليوم وبعد مرور سنتين على عمله الأخير “دائرة الطباشير” يقدم بمناسبة اليوم العالمي للمسرح العمل المسرحي “اختطاف” إعداد محمود الجعفوري عن نص “الأبواق والتوت البري” لداريو فو.
أول مرة

وبيَّن الفنان أيمن زيدان أن داريو فو كتب نصه مستفيداً من حادثة واقعية شهيرة حدثت في إيطاليا عام 1978 وهي حادثة اختطاف الألوية الحمراء لرئيس وزراء إيطاليا آنذاك، وطالبت المنظمة لقاء الإفراج عنه بإطلاق سراح ثلاثة من الإرهابيين، إلا أن الحكومة رفضت التفاوض والمقايضة فما كان من المنظمة إلا أن أعدمت رئيس الوزراء رمياً بالرصاص، فاستغلّ داريو فو هذه الحادثة الواقعية لينسج عليها قصة افتراضية لها علاقة بخطف رجل الاقتصاد الأول في إيطاليا، عبر لغة مسرحية طريفة وعبر استخدام عدة أجناس كوميدية استخدمها المخرج (ديلارتي، فالس، غروتسك وسيرك) بهدف الخروج بمزيج كوميدي أخّاذ وطريف يتم من خلاله إيصال رسائل سياسية مهمة.
وأشار زيدان إلى أنه تمت إعادة كتابة النص لصالح الصيغة البصرية التي سيقدَّم بها، حيث أن المسرحية -بشكل أساسي- باتت قائمة على لعبة تبديل ملامح شخص بشكل تام.. ومن هنا نبعت فكرة أن تظهر الشخصيات بأقنعة لتكون شخصيات ليست لها عوالم نفسية بقدر ما تمثل أنماطاً اجتماعية، عبر عرض حيوي أهم ما فيه أن يكون لحظوياً، يشعر من يشاهده أنه مصنَّع في العام 2017 في إيقاع اللحظة والزمن رغبةً من زيدان بعدم الابتعاد عن مفهوم الحرب، ولكن دون أن يكون العرض ملتصقاً بها إلى درجة تقديم فن تعبوي بهدف تقديم أفكار أساسية ثابتة وعامة، عندما أدركنا جميعاً وجود مؤامرة على منطقة ما وأن هذه المؤامرة تقودها أنظمة تحركها قوى اقتصادية كبيرة، فكان لا بد من تحليل طبيعة هذه القوى ومن يحركها فعلياً، لذلك يستطيع زيدان اليوم وفي هذا التوقيت أن يوصّف كل ذلك ضمن شكل فني مختلف واقتراح بصريّ يتم الاشتغال عليه لأول مرة.

أجرأ المحاولات

وينوه زيدان إلى شغفه بداريو فو كمسرحي لأن ما يميزه –برأيه- أنه رجل مسرح وليس رجل أدب، وبالتالي هو دائماً يقدم مادة جريئة وحيوية، فيها فسحة كبيرة للمخيّلة، ومسرحه يتطلب جمهوراً ذكياً، وهو رجل لمّاح صاحب نكتة عالية المستوى وذات معانٍ سياسية عميقة، أما كيف نحكي عن ارتدادات الحرب فبرأي زيدان لكل منا طريقته، وهو اليوم لا يدخل في المساحة الوجدانية العاطفية الإنشائية بل في المساحة السياسية التحليلية التي فيها وجهة نظر، وما يعجبه في داريو فو أنه ينظر إلى الحياة من زاوية كوميدية ساخرة ومريرة ويستخدم وسائل مختلفة لتجسيد ذلك، فنرى في مسرحه ملامح مسرح بريخت والسيرك والمهرج.. وزيدان لم يعد يميل إلى تقديم جنس فني محسوم بالمعنى المنهجي، والمطلوب برأيه اليوم تقديم عرض مسرحي مقنِع صادق ومؤثر ويورط المتفرج بشرطه الجديد، وتنبأ بنجاح التجربة في “اختطاف” دون أن يخفي أنها من أجرأ المحاولات التي عمل فيها واعترف أنه دخل فيها حدود المغامرة والتجربة مع مجموعة من الشباب الجدد الذين كانوا شركاء حقيقيين على صعيد بذل الجهود الجبارة باتجاه ما يهدف إليه العرض، وأوضح أنها مغامرة محسوبة النتائج لا تتوقف عند حدود المغامرة، خاصة وأن هذا النوع من العمل يحتاج لعشاق مسرح حقيقيين، لأن الطريق للوصول إلى الصيغة التي انتهى بها عرض “اختطاف” وبدت سهلة في النهاية كان شائقاً جداً، لذلك كان من الضروري –برأيه- أن يكون ممثلوه مجموعة متمسكة بعشقها للمسرح خارج حالات الاسترخاء الاحترافية، وقد بُذِلت جهود جبارة للوصول إلى الاقتراح النهائي في المسرحية وهو اقتراح قابل للحوار والنقاش، منوهاً إلى أن خوض مغامرة مع أرواح شابة قد تبدو متعبة ولكن الإنجاز فيها أكثر متعة.

دوي القذائف لم يمنعهم

وأكد زيدان أن أيّ حرب في السنوات الأولى يكون لها صدى انفعالي يتعامل معه معظم العاملين في الثقافة، ولكن بعد فترة تختلف القراءة وتزداد العقلانية على حساب ردود الفعل الانفعالية التي تصبغ –أحياناً- النتاج الثقافي في فترات الحرب الأولى، وهو اليوم في “اختطاف” أكثر عقلانية لمناقشة قانون سياسي يحكم القوى الكبيرة في العالم، ويعتقد أن ظلال الحرب يجب ألا تعيق إمكانية البحث والاكتفاء بصنع أعمال بمضمون انفعالي وأشكال كسولة، بل لا بد من أن نستمر بالبحث، ولم يخفِ زيدان أنه وخلال إنجاز مسرحية “اختطاف” نسي العاملون فيها الحرب وتعاملوا وكأنهم خارج هذه المعادلة، رغم أن الحرب بظلالها وآثارها وأوجاعها قابعة في أرواح الجميع، لكنها لم تهيمن على ذاكرتهم خلال الإنجاز، وهذا يعني أنه يجب أن نمتلك دائماً الرغبة في البحث، وأن نبقى مصرّين على تقديم أشكال واقتراحات لأننا مازلنا على قيد الحياة، لذلك لم يمنعهم دوي القذائف من البحث والتجريب، لأنه ينبغي ألا نكون أسرى لانفعال لحظة، رافضاً زيدان الحديث عن رسائل العرض لأنه لا يستطيع أن يختزل العرض بجملة أو فكرة، وإلا لكان أفصح عن مقولته بجملة ولا داعٍ للعرض ولقناعته أن مقولة العرض هي للعاملين فيه وليس لتصديرها للجمهور، وبالتالي يكفيه أن يقول أنه يقدم عرضاً فيه  جانب معرفي وجمالي.
السياسة لم تغادر عروضه

من يتابع أعمال أيمن زيدان المسرحية السابقة (دائرة الطباشير-راجعين-سيدي الجنرال.. الخ) يدرك تماماً أن السياسة لم تغادر عروضه لقناعته أنه لا يمكن العمل في المسرح خارج المعادلة السياسية حتى حين التصدي لظاهرة اجتماعية، وبيّن أنه يضع هذه المضامين السياسية ضمن أطر بعيدة عن التكلف وبشكل قريب من الجمهور انطلاقاً من حرصه على شعبية العلاقة بين أعماله والجمهور وهي العلاقة التي تهمه كثيراً لأنه يعتبر المسرح بجوهره ظاهرة جماهيرية وليس نخبوية، والدليل أن كل العمارة المسرحية التي تُرِكت لنا منذ بدايات نشوء الظاهرة المسرحية كانت مسارح كبيرة تتسع لآلاف المتفرجين، وهذا يعني أن المسرح لم يكن إلا حالة شعبية، لذلك يحرص زيدان على بناء علاقة وطيدة مع الجمهور تأكيداً على الفرجة والتواصل مع الإنسان، ولم ينكر أنه في “اختطاف” غامر بجنس فني مختلف وهو اقتراح فيه الكثير من الجرأة  رغبة في تقديم كل ما هو جديد للجمهور.
وحول تقييمه لما قُدِّم من عروض تحت مسمى المسرح السياسي خلال فترة الحرب على سورية رفض زيدان أن يلعب دور الناقد للتجربة المسرحية التي قُدِّمت تحت هذا الاسم، وهو بالأصل يعترض على هذه التسمية لقناعته أن مثل هذه التسميات لم تعد قابلة للحياة لأنه لا يوجد مسرح غير سياسي، أما تقييمه لما قُدِّم فيمكنه القول أنه طغى عليه الجانب الوجداني ودغدغة الحس الوطني والوجع السوري، وهذا أمر طبيعي ينطبق على الأفلام التي أُنجِزَت بعد الحروب الكبيرة في العالم، حيث كان معظمها أفلاماً تعبوية، إلا أن التاريخ –برأيه- احتفظ فقط بالأفلام الهامة التي أُنجِزَت بعد أن تكشفت خيوط الصراع في هذه الحروب، ونحن الآن ما زلنا نراهن في سورية بأن أوراق المسألة السورية لم تكتمل معرفتها، وهذا برأيه لن يتكشف إلا بعد مرور الكثير من الوقت.. من هنا سيطر على العروض المقدمة خلال فترة الحرب الجانب الوجداني الذي يجب الابتعاد عنه اليوم.

فن مسكين

وعلى الرغم من عدم انقطاعه عن المسرح إلا أنه وفي تحضيره لكل عرض يتناول الإعلام خبر عودته إلى المسرح وكأنه غائب عنه منذ سنوات، وهذا ما يجعل أيمن زيدان يستغرب من هذا الكلام دائماً وهو لم ينقطع عن المسرح لعشقه الكبير له، وعمله فيه يؤكد ذلك، وأشار إلى أنه لا يتوانى عن العمل فيه حينما تحرّضه فكرة ما وهو الحريص على تقديم مسرح شعبي، وهو المشروع الذي لم يغيره لأنه يُسقِط من حساباته تماماً أن يكون المسرح غير ممتلئ بالجمهور، وهذا ما يجعله حريصاً على  تقديم مادة معرفية جمالية يشعر الجمهور بحاجته إليها، وأكد أن خبرات الحياة وعمله في المسرح منذ زمن طويل، بالإضافة إلى أن انغماسه بالشأن اليومي وتماسه المباشر مع الناس يجعله قادراً على جس نبض الجمهور بما يريد ويحب، خاصة وأنه لا يعيش حالة خاصة بعيداً عنه تفترضها –أحياناً- حالة الشهرة التي لا يعيشها، إلى جانب خبرات حياته الشخصية ومعارفه، وهو رهان ليس بالضرورة أن ينجح دائماً ولكن دائماً لديه اقتراحات قادرة على جذب المتفرج، والدليل أن عروضه مكتظة بالجمهور لأنه يعرف أن من حق المتفرج أن يستمتع، وهذا قانون لا يحيد عنه في أعماله، انطلاقاً من قناعته أن شكل المتعة في أي عمل هو الذي يحقق حالة التباين بين مسرح مهم وآخر غير مهم، وهذا يعني بالنسبة له أن شرط المتعة يجب أن يتوفر في أي عمل لأن من حق أي متفرج أن يحصل على هذه المتعة وأن يستمتع لقاء قدومه إلى المسرح. وأشار زيدان إلى أن الاحتفال باليوم العالمي للمسرح كان تقليداً دائماً في حياته كخريج معهد مسرحي، أما اليوم فلم يعد معناه مؤثراً، وأوضح أن فكرة (أبو الفنون) ليست مرتبطة بالقِدَم التاريخي بل بالكمِّ المعرفي وقدرته على تحقيق التأثير على الناس، فهو يمكن أن يكون فعلاً منبراً معرفياً، ولكنه اليوم مظلوم وقد بات يوم المسرح العالمي يذكّره بأعياد الفقراء التي لا تثير البهجة بل تثير الكثير من الحزن، ولكنه رغم كل التحديات التي تواجه هذا الفن أكد للمسرحيين أن المسرح لن يموت، وقد تعرض في السابق لتحديات كثيرة مع ظهور السينما والتلفزيون، وكان هناك دائماً رهان على أنه سينقرض إلا أنه ظلّ قادراً على الحياة، وهو لن يموت لأن له لغة لا تشبه الآخرين بشرطه ولحظته التي يكون فيها المتفرج شريكاً في صنعه وخلقه.
مسرحية “اختطاف” من إنتاج مديرية المسارح والموسيقا ومن بطولة: لوريس قزق، لجين إسماعيل، نجاح مختار، أنطوان شهيد، توليب أحمد، خوشناف ظاظا.
أمينة عباس