الموسيقا المغاربية المدهشة.. الراي أنموذجاً
بقيت الموسيقا المغاربية المنتشرة في بلاد المغرب العربي وأوروبا أيضاً غير معروفة بالنسبة لمعظم العرب المشرقيين الذين لم يتعرفوا على هذا النوع من الموسيقا، إلّا من خلال ما جاءهم عن طريق أوروبا للأسف، حيث تعرفوا على موسيقا “الراي” مثلاً في بداية التسعينيات من خلال المطربين الجزائريين الذين عاشوا في فرنسا مثل “الشاب خالد” و”الشاب مامي”.
ويمكن القول: إن السبب في هذا الجهل لهذه الموسيقا عند معظم العرب، سببه التقصير المتبادل من المشارقة ومن المغاربة، حيث لم يسع المشارقة إلى التعرف على الموسيقا المغاربية الأصيلة، ربما بسبب اللهجة المحلية الصعبة على الفهم، أيضاً المغاربة أنفسهم لم يعملوا على تعريف المشرق بموسيقاهم، حتى إن من استقر منهم في مصر كـ “وردة الجزائرية وسميرة سعيد”، غنوا الطابع الغنائي المشرقي، ولم يقدموا أغاني المغرب العربي، وموسيقاه، عندما فضلوا تحقيق الانتشار العربي الكبير الذي حققته لهم اللهجة المصرية، التي تعتبر حتى اللحظة، واحدة من أهم اللهجات الفنية وأكثرها انتشاراً، على غناء تراثهم المحلي، ولو أنهم فعلوا العكس، لنالوا الشهرة، وكان لهم أيضاً كبير الفضل في تقريب الذائقة العربية من بعضها البعض.
وكان من نتائج غياب هذه المعرفة بهذه الموسيقا هو الجهل التام والمطبق بالتراث الموسيقي الجزائري، وهو تراث غني ومتنوعٌ جداً، حيث إن له أنماطاً موسيقية وغنائية عديدة في الجزائر، تختلف باختلاف المنطقة، فهناك الموسيقا “الأندلسية” التي يحبذ المؤرخون الموسيقيون تسميتها بـ”الموسيقا الكلاسيكية” في المغرب العربي، وعادة ما يصاحبها غناء من الشعر العربي الفصيح، وهي كما يظهر اسمها مستمدة من الموسيقا الأندلسية القديمة، ولها أقسام ومقامات متنوعة للغاية، ومدينة “تلمسان” تعتبر عاصمة الموسيقا الكلاسيكية في الجزائر، إلّا أن الأمر لا يقف هنا فقط، وعند هذا النوع الذي ربما تم التعريف به، ولو بشكل بسيط من خلال الموشحات التي غناها فنانون عرب في بعض حفلاتهم، فإضافة إلى الموسيقا الكلاسيكية هناك “النوبة” الجزائرية، وهي قِطع موسيقية مقسمة إلى سبع وحدات، وهناك “الحوزي” الذي يعتمد على الإيقاعات الشعرية باللهجة العامية، و”الحوزي” يعتبر أنه تطور عن الموسيقا الأندلسية، أيضاً هناك “المألوف” الجزائري، وهو نوع من الدمج بين الموسيقا الكلاسيكية الأندلسية وبين المدائح الصوفية ذات التأثير “التركي” ليكون أقرب إلى الموشحات، وهناك موسيقا “الشعبي” التي ظهرت مطلع القرن العشرين، وهي دمج للموسيقا الأندلسية بالموسيقا الأمازيغية، وتُؤدى أغانيها عادة باللهجتين الجزائرية والقبائلية، وهي الموسيقا السائدة في منطقة الجزائر العاصمة والمنطقة الوسطى من الجزائر ومن أعلام الفن “الشعبي” الفنان “دحمان الحراشي” صاحب أُغنية “يا رايح وين مسافر”، أيضاً الموسيقا “القبائلية” والموسيقا “السطايفية” والموسيقا “الشاوية” السائدة في منطقة الأوراس، وموسيقا “الترقية” وموسيقا “القناوة”، وغيرها الكثير من أنواع الموسيقا الجزائرية التي لا نعلم عنها، نحن أهل المشرق العربي شيئاً، اللهم إلّا بعضاً من موسيقا “الراي”، والكثيرون منا يحبها رغم أن أغلبنا لا يفهم معظم كلمات أغانيها، بحيث أصبحت “سيدي ارؤف عليا” في أُغنية “عبد القادر” “زيدي ويش عليا” مثلاً كما فهمناها!.
ولموسيقا “الراي” التي تبدو بسبب إيقاعاتها الأمازيغية وموسيقاها السريعة، وكأنها للرقص لا لشيء آخر، ولهذه الموسيقا تراث عريق وحكاية نضال فنية اجتماعية وحربية مثيرة، حيث ظهرت موسيقا “الراي” في منطقة “سيدي بلعباس” غربي الجزائر، وتطورت في مدينة وهران، ولها جذور ضاربة في القدم، تعود إلى الأغاني البدوية القديمة التي كانت تتنوع مواضيعها بين المديح الديني والمشاكل الاجتماعية، ومع الاحتلال الفرنسي للجزائر صارت مواضيعها ترتكز على سرد مآسي الناس وتوعيتهم ضد خطورة الاحتلال الذي صار يعامل أبناء البلد، وكأنهم هم الغرب عنها لا هو المحتل الغاصب، وكان أن حملت الكثير من أغاني “الراي” المشتق اسمها من الرأي، مضموناً ثورياً يحض على التخلص من الاحتلال وغيرها من الأمراض الاجتماعية السائدة في المجتمع، والتي كان المغني يبدي رأيه في هذه المشاكل والأحداث الجارية من خلال هذا الصنف من الغناء.
لم تدم حالة ازدهار “الراي” طويلاً، فبعد تحرير الجزائر عام 1962 دخل “الراي” في فترة من الركود لأسباب عديدة، ليس مقام ذكرها هنا مناسباً، لكنه عاد لينبعث من جديد في ثمانينيات القرن المنصرم، وذلك على يد مجموعة متحمسة من الشباب الذين أدخلوا على ذلك النوع من الموسيقا التراثية، الآلات الحديثة كالأورغ، وصار هذا الفن يقدّم في الملاهي الليلية في وهران بداية، حتى قام أحد البرامج التلفزيونية “ألحان وشباب” التي تُعنى بالمواهب على التلفزيون الجزائري، بالعمل بشكل حثيث وكبير لإحياء هذا الفن، حيث قدّم البرنامج الآنف الذكر خلال حقبة الثمانينيات، العديد من مغني “الراي”، وأكسبهم ألقابهم من خلال اسمه، حيث بات مغني “الراي” يلقب “بالشاب”، وكان أن تخرج منه العديد من “الشباب” كالشاب “مامي”، وشارك فيه أيضاً الشاب “خالد”، وصفة “شاب” هنا هي ليست صفة زمنية، بل صفة فنية، لذلك لا يستغرب أحدكم أن يبقى الشاب “خالد” يحمل نفس الصفة الفنية “شاب” وهو على بوابة الستين من العمر. إلّا أن الحديث عن موسيقا “الراي” لن يكون مكتمل الأركان إذا لم يذكر الشاب “حسني” أحد أهم رواد الراي الحديث، وهو من الذين أدخلوه إلى كل بيت من خلال تقديمه اللون الرومانسي منه، والشاب “حسني” كان أسطورة الراي بلا منازع في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات قبل مقتله، وكانت أشرطته تباع كالخبز في الجزائر، حتى إن شركتَي تسجيل مُتنافستَين، قامتا بتسجيل ذات الألبوم، وطرحتاه في السوق في وقت واحد، وحقّقتا أرباحاً من خلال بيع مئات آلاف النُسخ، كما بيعت أشرطته في أوروبا بملايين النسخ.
والشاب “حَسني” كان من الذين لعب القدر دوراً مهماً معهم للتوجه نحو هذا الفن، فالرجل بدأ حياته كلاعب كرة قدم، إلّا أن الإصابة أبعدته عن الملاعب، فاتجه إلى الفن الذي كان يدندنه في فتوته، وخلال وقت قصير حقق شهرة كبيرة من خلال أغانيه التي اتسمت بالعاطفة والشجن، وكان لا ينافسه أحد في مجال الراي، حيث اعتبر المجدد والرائد، إلّا أن أيام “العشرية السوداء” في الجزائر أبت أن يستمر أسطورة الراي، فقد قتله التكفيريون عام 1994 قبل أن يكمل ربيعه السادس والعشرين، ليحرم العالم من صوته وأغانيه التي انتشرت بشكل مذهل رغم صغر سنه، ولتفسح وفاته المجال لبروز الآخرين مثل الشاب “مامي” والشاب “خالد”.
ليس عن عبث سميت الموسيقا بـ “لغة الشعوب”، فهي لا تحتاج إلى ترجمة، والجميل منها سيدخل القلب، ويبقى محفوظاً في الوجدان، لكن مرة أخرى يجب أن تعرف كل الشعوب العربية أنواع الفنون الموجودة عند كل دولة عربية، فالفن قادر برقيه ورفعة مضامينه أن يفعل ربما ما تعجز السياسة عن فعله، وكان الحديث عن الراي والجزائر بشكل خاص من بين الموسيقا المغاربية المتنوعة والتي سبق ذكر بعضها في المقال، وبعضها لا يزال بحاجة إلى الشرح، هو أن الجزائر هي من البلدان العربية الكبيرة التي تعرضت لما نعاني منه اليوم في العالم العربي، وفي وطننا بشكل خاص “الإرهاب” الذي حاول أن ينال من بنيتها الاجتماعية وإرثها الفني والفكري، لكنه فشل في ذلك، كما سيفشل عندنا بكل تأكيد.
تمّام علي بركات