ثقافة

في هذه الحرب على سورية.. الطفل أولاً وثانياً

وتبدأ الحرب على سورية، وقبل هذه الحرب، كنا نطالب بالكثير من أجل ثقافة الأطفال، نطالب بمؤسسة ثقافية يكون لها برنامجها الوطني الشامل، الذي يُعنى بالطفل السوري:
– تثقيفه، وتنمية مخزونه المعرفي بثقافة مدروسة، ومُؤَسَّسة بما يتناسب وحياته في هذه المنطقة، أو تلك من أرض الوطن.
– قبل البدء بهذا العمل، تشكيل بيئة جيدة، منتقاة بدقة تساعد الطفل بالحصول على هذه الثقافة، سواء في المنزل أو المدرسة، أو المؤسسات الثقافيَّة والتعليمية الأخرى، أي الاهتمام بالإنسان الذي سيقوم على هذه المهمة، كي تصل بأسلوب سليم إلى الطفل، يجذِّرُ الإنسان بثقافته المتكاملة في أرض هذا الوطن، ويحقق الهدف المرجو منها.
– استنفار جهود المختصين، سواء منهم من ينتمي إلى ساحة علم الاجتماع، أو علم النفس التربوي، أو علم نفس الطفل، أو الإبداع الأدبي والعلمي، لوضع برنامج وطني ينهض بالطفل وساحة الطفولة، لأنها أساس بناء المجتمع.
وفي هذا الخصوص تحضرني حادثة جرت معي، إذ كنت متابعة في ورشة تخص الطفولة، قامت بها الهيئة العامة لشؤون الأسرة قبل الحرب.. قدَّم القائمون على الورشة كتباً أنيقة مكلفة جداً حول موضوع الأطفال، والاعتناء بهم صحياً وعلمياً، كما قدَّموا بعض المحاضرات.
تمعنت فيما قرأتُ وسمعتُ، ولاسيما كلمات الأكاديميين، فلم أجد إشارة إلى موضوع الثقافة.. فسألت الدكتور المشرف على الكتب: ألا ترى معي يا دكتور أنَّ ما ذكرتموه من اهتمام بصحة الطفل وتعليمه وتربيته، هي عمليات ترتبط بقوة بثقافة الطفل عبر برنامج نصل فيه مع الطفل إلى ما نريد؟!.. فأجابني الدكتور حينها: أجل. فقلت له: إذاً، لماذا تخلو هذه الورشة بما كُتِبَ وقيل من حديث عن ثقافة الطفل؟!. فأجابني هذا الأمر سنناقشه فيما بعد، وبالطبع لم يُناقش هذا الأمر، وحتَّى لم يناقَش الأهم.
أصابتني غَصَّة، ووصلت إلى نتيجة، وهي أننا ما لم نقم بعمل وطني متكامل نظيف، بعيد عن المهرجانية، وأمزجة البعض، والتكاليف الباهظة المرتبطة بالفنادق والقاعات الفخمة، لن نصل إلى بناء عالم الطفل بشكل جيد.. صحيح أن هيئة شؤون الأسرة، واتحاد الكتّاب (بجمعية أدب الطفل) ووزارة الثقافة عبر مديرية ثقافة الطفل، ومنظمة الطلائع، مؤسسات تهتم بثقافة الطفل، لكن لو عدنا إلى ما قدّمته جميعها في سنوات ما قبل الحرب على سورية، لوجدناه لا يعادل عمل مؤسسة واحدة للأطفال، غزتنا ضمن من غزانا في هذه الحرب، بدءاً بعدد الكتب المطبوعة للأطفال، وليس انتهاءً بالعمل على نشر ثقافة المطالعة التي تراجعت تراجعاً مرعباً في تلك السنوات، لتسجل الآن حالة موت.. وهذا لأنها كانت ضعيفة في الأصل، وغير مدروسة لتشمل كعملية هامَّة جميع المؤسسات المعنية بتربية وتعليم وتثقيف الطفل.
لابأس من بعض النشاطات المهرجانية، لكننا اليوم، وبعد حدوث ما حدث، واستغلال أعدائنا لكل هذه الثغرات بشكل أو بآخر، وبناء مخططهم لتدمير البشر قبل الحجر، وغزو العقول قبل الغزو العسكري، أتمنى من أحزابنا أولاً، والمؤسسات ذات الشأن ثانياً، والمجتمع ككل ثالثاً، أن يُعطي هذا الأمر اهتماماً يترافق مع واقع الأرض الذي جعل السوري في مكانة عظيمة في نضاله من أجل الوطن.
وهذا يستلزم منها وقبل كل شيء، انتقاء الإنسان المناسب، سواء في وزارة التربية، أو اتحاد الكتّاب، أو وزارة الثقافة، أو طلائع البعث لوضع برنامج وطني متكامل مع القطاعات الخاصة والمهتمين بهذا الأمر، لا البحث عن أسماء لا علاقة لها بالعمق والخبرة بالطفل وثقافته، ولتنفيعها فقط، وربما هذا ما كان يحصل، ويحصل إلى الآن في الكثير من ورشات العمل والمؤتمرات والخطط.
– الانتباه إلى كل ما حصل من تطورات خطيرة في عالم الطفل المرتبط بمجتمعنا ككل وذلك: بالانتباه إلى كل الأطفال في هذا القطر- الأطفال الذين انفصلوا عن الدولة مع أسرهم لسنوات أو شهور، وعاشوا في عالم إجرامي مباشر- الأطفال الذين فقدوا بعض أسرهم، وربما كلّ الأسرة المشرفة عليهم، وما زالوا في ظل الدولة- الأطفال الذين هُجِّروا مع أسرهم داخل الوطن.
هؤلاء الأطفال، كلهم عاشوا لسنوات في عالم إجرامي، يُمارَس عليهم الإجرام مباشرة، أو بشكل غير مباشر، معنوياً ومادياً، ثقافياً وتعليمياً، حتَّى الذين كانوا بعيدين عن أي أذى ماديّ مباشر تأذَّوا، وهم يعيشون كلَّ جزئيات الحرب على سورية التي انتهكها الغزو بكلِّ أشكاله الفظيعة، فهؤلاء بحاجة إلى عمليات تأهيل سريع من قبل مختصين، يتبعون برنامجاً علاجياً علمياً وثقافياً مدروساً، كي يعودوا إلى حياة الوطن الطبيعية شيئاً فشيئاً، ومن ثم يعودوا إلى المراحل التالية التي ينسجمون فيها مع الآخرين، وحالة الوطن، وبذلك يتماشى أمرهم مع خروج سورية من حالتها العسكرية، ويكونون أساساً جيداً لإعمار الوطن بشرياً واقتصادياً، لا بل مساهمون في هذا البناء، لأنَّ السنوات تمر وصغيرهم أضحى على عتبة الشباب، وما أصابهم شيء فظيع قد تمحوه يد العناية بهم، وشفاء سورية بهم.
لهذا.. فكل أطفالنا بحاجة إلى جهود متكاملة كبيرة ومدروسة، ومنطلقة من فعل وطني واعٍ لخطورة ما نمرُّ وما مررنا به، وإلى يقظة المسؤولين في الاعتماد على الإنسان القائم على هذه الأمور، لأنَّ ضخامة الصروح الثقافية لا تؤدي الهدف من وجودها ما لم يكن الإنسان القائم عليها وطنياً قبل كل شيء، متعمقاً فيما أوكل إليه، نزيهاً يبتغي المضمون، لا المظاهر، وما تأتي به.
كثيرون قد يردون: إننا نعمل.. لا شكَّ أن بين من يعمل أناساً جيدين، لكن في نفس الوقت فقدان جزء من السلامة في العمل تخرب العمل، ولا تؤدي المطلوب، وتُوصِلنا مرة أخرى إلى ما وصلنا إليه بسبب دخول أعدائنا من الثغرات التي كانت موجودة.
إنني، وأنا أشاهد برنامجاً، قدَّمته المنار لمؤسسات تركية تحتضن أطفالاً سوريين، وتقوم بالإشراف عليهم تربوياً وعلمياً، فوجِئتُ بحجم الجهد المبذول علمياً وتثقيفياً.. ودفعني هذا إلى قول ما ذكرته، فإن كان عدونا يسابق الزمن لكسب الفرصَ، فعلينا نحن الإسراع أكثر لترميم ثقافة طفلنا، وترميم تربيته وبيئته، وبالتالي ترميم مجتمعنا ككل، وإن كان القائمون على السياسة السورية الاقتصادية يسعون لوقوف الدولة على رجليها، فإن القائمين على هذا الشأن، ومعهم كل المعنيين بالشأن الثقافي المهم، وربما الأهم، مُطالبون أكثر بمحاصرة كل مشاكل الطفولة جنباً إلى جنب مع لقمة الخبز، وأهمها مسألة الثقافة، وذهن الطفل الذي استهدفه الغزو قبل كل شيء، وأسَّس عليه ليصل بعد سنوات من الحرب إلى طفل يَذْبَحُ عسكرياً، وهو يقول: الله أكبر.
هل ننتظر حتى تتوقف الحرب؟!. بالطبع لا.. ويجب أن نكون قد بدأنا خطوة خطوة منذ سنوات، لأنَّ كل يومٍ يأتينا بالكثير من الفواجع، التي يجب أن نبدأ بتفكيكها، وحلها شيئاً فشيئاً، مع انزياح الغزو عن أرض الوطن.
إن شعباً استطاع الصمود أمام هكذا حرب كونية يستطيع أن يزيل بالمثابرة، ووضع الإنسان في المكان المناسب، وهذا الأهم في جميع مراحل البناء، ومحاسبة من يقصِّر، كل آثار هذه الهجمة الكارثية، التي استهدفت البشر قبل الحجر.. كلمات أتمنى من القائمين على مؤسساتنا الثقافية والتربوية وقبلهم جميعاً مجلس الشعب الاهتمام بها، ونحن نرتقب الخلاص من أفظع حرب في تاريخ البشرية، كما يؤكد الدارسون من أنحاء العالم.

مريم خيربك