الشجن في الأغنية العراقية موروث سومري
المستمع للأغنية العراقية وعلى مر العصور، يعرف أن عنوانها الرئيس وصيغتها الأساسية وثوبها الأزلي هو الحزن المصحوب بالشجن سواء كانت جنوبية أو غربية أو شمالية أو كانت الأبوذية أو الزهيري أو بستة غنائية، فتجدها في كرنفالات الفرح متألقة بشجنها، فما السر في ذلك، ومن أسس لتلك الأهرامات المبنية من صخر الصبر والتأسي، فهل الشجن في أغانينا محض صدفة أم أنه ألق من ملحمة كلكامش دونته مسلة حمورابي وجعلته أحد بنودها الثابتة التي لا يمكن تجاوزه، أم أنه تابع من تراتيل العشق بين (أناتا) و(سيدوزي)، لذا تجد العراقي حتى في أسعد لحظات الزمن الجميل وفي قمة ترف الحياة التي يعيشها لا يطربه ويثلج صدره غير الشجن.
النموذج وكلمة (صراخو)
بحث موسع نشر في مجلة التراث الشعبي البغدادية في العام 1982 بقلم الدكتور فوزي رشيد، يشير إلى سر تلك العلاقة، حيث يقول (إن هناك إشارات تؤكد أن الألحان السومرية القديمة تحمل في طياتها طابع الحزن والنوح من تلك الإشارات إن العلاقة المسمارية الخاصة بكلمة أغنيته التي تلفظ باللغة السومرية (شير) قد اقتبسها الأكاديون وعبروا بواسطتها عن الفعل (ينوح) والذي معناه ولفظه باللغة الأكادية (صراخو)، وكذلك عن الفعل يغني والذي لفظه ومعناه في الأكادية (زماروا) وهذا ما يدل على الشبه الكبير الذي كان موجوداً في العصر السومري القديم بين الغناء والنوح، وإلا فلماذا دوّن الأكاديون الفعليين بالعلاقة السومرية الخاصة بكلمة أغنيته، وعلى هذا سبيل المثال يقول رشيد، أن هناك الأغنية العراقية الشهيرة (عيني وماي عيني.. يا عنيد ييابة) التي ألفها ولحنها وأداها الفنان العراقي (حفيدي أبو عزيز) وهو من محافظة ذي قار (الناصرية)، في الجنوب السومري من العراق، وهذه الأغنية كتبت وغنت ولحنت وفقاً لأحدى الطرق السومرية التي تتمثل في تكرار شطر البيت الأول في جميع أبيات القصيدة وقد ظهر هذا الأسلوب بالأداء في الألف الثالث قبل الميلاد.
الحزن بأيام الفرح
من هذا المنطلق يتبين لنا أن الشجن في الأغنية العراقية هو موروث سومري بامتياز، والدليل الدافع هو كلمة (ينوح) التي نستخدمها الآن وما يقابلها بالأكادي هي كلمة (صراخو) وكلمة يغني منبعها الأكادي وأصلها (زمارو) والتي تشير إلى (الناي) وهو لسان الشجن الأيدي، وهذا الموروث السومري والأكادي الذي أصبح لصيقاً دائماً للعراقي لم يستطع التخلص منه على الرغم من دخول الجيوش العربية الإسلامية للعراق، فبعد أن أصبح العراق عاصمة للدولة الإسلامية قام بإدخال ذلك الموروث حتى في الإسلام من خلال المنشد، أو ما يسمى بالرادود في مواكب العزاء الحسيني، خاصة في طقوس النوح الذي يستشير بكاء المستمعين في نهاية المحاضرة الدينية لرجال الدين وهذه الطريقة التي تسمى (النعي) والمستخدمة حتى الآن تشابه إلى حد كبير بما كان يفعله مغني (الكالا) السومري القديم ووصولاً إلى عصرنا الحديث لم يستطع العراقي الهروب من صاحبه الشجن حيث ذهب أغلب الباحثين العراقيين ومنهم الدكتور حسين سرمك حسن، إلى أن رغم حالة الاستقرار والاسترخاء التي عاشها العراق في سبعينيات القرن الماضي إلا أن فناني هذه الفترة لم يستطيعوا عكس هذه الفترة بأغنياتهم بل إن سمة الحزن التي كانت الأبرز في هذه الأغاني أثبتت أنها معششة في الآذان العراقية وليس من السهل استبدالها بأغان تدل على الفرح.
أول أغنية في التاريخ
هذا يعني أنه مع استمرار الحياة وتزاحم الحروب والنوائب والنكبات على سكن هذه الأرض، ازدادت بل تجددت أغاني الشجن لترسم صورة الواقع الذي يعيشه العراقي وكيف يحاول أن يصمد ويصارع الهم ويتأسى بشجن القيثارة السومرية من أجل صنع الحياة التي يريد، لتبقى لأزمات الحزن ملازمة للأصوات الشعبية التي تملأ الساحة الغنائية فهذا يصيح (يا ويلي) وآخر يصيح (يابه) وثالث يهتف (بوياي) وهاتف ينادي (ويلاه.. ويلاه) (وآحاه منك يا زماني) وجميعها تؤكد سر العلاقة بين الشجن والأغنية العراقية والشجن السومري يفرض وجوده بأول أغنية عاطفية عرفها التاريخ وعمرها خمسة آلاف عام، وعثر على مخطوطة في أهوار سومر في (الناصرية) في لوح طيني مفخور ويعض مقاطع تلك الأغنية السومرية العراقية تقول: (وسيم أنت جميل حلو كالعسل أيها الأسد، حبيب أنت إلى قلبي، وسيم أنت جميل، حلو كالعسل أيها العروس، لقد تمتعت وابتهجت معي، فأخذ أمي وستقدم لك الطيبات وأبي سيغدق عليك الهبات، روحك أنا أدرى كيف أبهج، روحك أيها العروس، أغف في بيتنا حتى الفجر).
د. رحيم هادي الشمخي