“قاطفو النّجومِ العُجّز”.. هل أحبّ الشعراء يوماً؟!
اتّهام “موباسَان” الآنف الذّكر، المعَنوَن بـ “حبّ الشّعراء”. أراه يثير قضية بغاية الالتباس، قد تصل إلى حدّ الفضيحة فيما لو تمّ الجزم بصحّتِها، إذ سيتعرّى أمامنا تاريخٌ كاملٌ من الوهم والزّيف الذي سيلتصق بشكلٍ يصعب الفكاك منه بمصطلح “الحبّ العذري” الذي وسم نِتاجَ قاماتٍ كبيرةٍ في الشعر العالمي والعربي تاريخيّاً. تغنّت الذّاكرة الجمعيّة بأمجادها وزرفَ العشّاق الدّموع والشّهقات تحتَ ظلالِ أطلالها: “جميل بثينة، عروة وعفراء، قيس وليلى، أراغون وإلزا، نابليون وجوزفين، دانتي وبياتريس، بيترارك ولور، لامارتين وألفير، ممو وزين، غسّان كنفاني وغادة السّمان، محمود درويش وريتّاه وعماد جنيدي وإلياناه.. الخ”.
للاتّهام مشروعيّتّهُ في الدّراسات النّفسيّة العلميّة الحديثة التي أثبتت بأنّ مايُطلق عليه الحبّ العذري، الطّهراني، ليس أكثر من ازدواجيّة اغتراب يعيشها الكائن/العاشق، أقرب إلى الفِصام، حيث تسيطر الأوهامُ والهلوساتُ على كاملِ المخيّلة، وتطغى الصّورة الذّهانيّة على مجمل المساحة النفسيّة العاطفيّة للشّاعر، فلا يرى الآخر، أيّاً كان، إلّا من خلالها، أي من خلال طيف المحبوبة المحلوم بها، وتلك هي آليّة جلد الذّات “المازوشيّة” وربّما هي آلية جلد الذّات والآخر، حيث يتفاعل السّادي والمازوشيّ مع بعضهما ضمن عملية كيميائيّة نفسيّة معقّدة، ينحسر فيها الواقعي إلى العتمة السّحيقة، ويتقدّم الاستيهامي إلى الواجهة والضّوء، علماً أنّ البعض من هؤلاء الشّعراء، لم يكونوا بالمثاليّة والطّهرانيّة التي يحاول تصديرها عن أنفسهم. بل كانوا يعيشون “أنواعاً من الحبّ تتراوح بين الحماقة والوحل” كما يقول “موباسان”. فبعد أن يصفهم بـ “قاطفي النّجوم العجّز” يعود لتحليل شخصيّاتهم، موضّحاً: (إنّ الانفعال الطّبيعي في الرّوح الشّاعريّة مشحوذاً بالتّوتّر الفنّي الذي يستلزمه الخلق، يدفع الشّعراء، هؤلاء الكائنات النّخبويّة، ولكن الفاقدة للتّوازن إلى تصوّر نوع من الحبّ المثالي، الغائم،الفائق الحنان، الذّهولي غير المشبع أبداً، الشّهواني الذي من رقّته يوقعه أدنى شيء في غيبوبة). أهكذا هم الشعراء؟!. كائنات بمشاعر هلاميّة لامنطقيّة يعشقون عتمتهم، بحثاً، عن حالة فردوسٍ لن يسكنوها أبداً. لم يحبّوا امرأة حقيقيّة من لحم ودم على الإطلاق. امرأة بعيوبها وإيجابياتها الأنثوية، فهي بتصوّرهم كائن خرافيٌّ ملغز، وفي الطرف الآخر للمعادلة تبدو المسكينة وكأنها تعيش هي الأخرى، وهماً تتسلّق سلالمه إلى عوالم فوق واقعيّة، مع أنّها تريد أن تُحَبّ كما يحبّ الكائن الواقعي، بمزيجٍ شهوانيٍّ مثالي يمتزج فيه الخيال بالدّلال، حيث تصحو وتنام على صدى الكلمات الرّنانة التي أنشدها إيّاها الشّاعر وتحبّه ككائن بشري، هو لا غيره، وبكثير من العشق السّاذج الممزوج بالرغبة.
لعلّ، لهذه النّظرة القاسية للشّعراء لدى “موباسان” المنتمي إلى رموز المدرسة الطبيعية كـ “فلوبير وزولا وغيرهم” مايبرّرها، حيث كان يتصدّى لموجة الرومانسيّة المسيطرة، محاولاً تحطيم بعض الأفكار والعادات النّمطيّة والصّنميّة في التفكير الفرنسي آنذاك، كما كانت منسجمة مع حياته الشخصية المتشائمة، كما قيل، الموغلة في التّعرية كشأن قصصه ومقالاته. ومع ذلك فهو لم يتخلّص من الشعريّة التي أدانها حيث ظلّت على “واقعيّتها الناتئة أحياناً” وتشفّ عن سليقة شعرية أقرب إلى الانطباعيّة منها إلى الاتجاه الذي سمى نفسه “طبيعة علميّة اختبارية” كما يقول الشّاعر “أنسي الحاج”. فنزعة “موباسان” وتيّاره الواقعي، أتتْ ردّاً على التيّار الرّومانتيكي في جانب منها، وقد كادت تخبو في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن العشرين حين سيطرت “السّورياليّة” ذات النّظرة الفلسفيّة على الفكر والأدب عموماً، التي أعادت المجد “للخيال والحلم والرؤيا” لكن نزعة “موباسان” سرعان ماستتجلّى بأعلى صورها في أدب “سارتر” الوجودي الواقعي، بعد عقود من الزمن.
هنا قد تجد من يشفق على المرأة من تهيّؤات الشّاعر، وهناك من سينتصر للشّاعر وهو يحاول الارتقاء بتصوّراته عن المرأة إلى مستوى الحلم المستحيل، ولكن أليست المسألة بجوهرها معضلة فكريّة لاترتبط بمخيّلة الشّعراء لوحدهم، ولا بالمرأة منفصلة عن حلمها؟.بل هي مأزق ذهنيّ يرتبط بنمط فكريّ إنساني يبحث عن التّغيير، متوسّلاً آليّات، هو لايمتلكها أساساً، تظلّلها تصوّراتٌ ميتافيزيقيّة، تعمّق الهوّة تجاه الواقعي بدل أن تجد ضالتها في حفريّاته، وتكاد تؤبّد النظرة المثاليّة للتغير!.
في تعرية “موباسان” لكبار الشّعراء والرّموز العاشقة. نجده يركّز هجومه الأعنف على “غوته” كما سنرى، مبتدئاً تشكّكه بالشّاعر “فيرجيل” صاحب “فنّ الحبّ” يقول: “ترى من يعرف إلى أيٍّ من الجنسين اتّجه تفضيله؟ هذا مايجهله الجميع! فكما هو معروف بأنّ الإغريق كانوا يحتقرون حبّ النساء، لأنّهنّ لايطابقن مثلهم العليا عن جمال الشكل” ولعلّ حكاية “بجماليون” النّحات القبرصي هنا تفيد بإضاءة مثل هذا التصوّر الموباساني، الذي عمد لنحت تمثال عذراء من العاج لحبيبته المتخيّلَة، حيثُ لم تكن صورة الأنثى الواقعية لتملأ فراغات روحه التّواقة لمثل أعلى للمرأة. وحين اكتمل التّمثال وقع في غرامه وطلب من “أفروديت” إلهة الحبّ والجمال، بنت “قبرص” أن تهبه حسناء كعذرائه العاجيّة تلك. وكان يقصد أن تهبه إيّاها نفسها. وأبدت الرّبّة موافقتها على ذلك عبر إرسال نار في الهواء كعلامة رضى. وما إن عاد إلى البيت وبدأ كعادته بتقبيل منحوتته حتى أحسّ بجسدها ينبض بالحركة والدفء. وتحمرّ وجنتاها لكلمات غزله الحارقة!.
ثمّ يتابع “موباسان” هجومه قائلاً: “كذلك دانتي يوم شاهد بياتريس وعبدها وكانت في الثانية عشرة! كان بحاجة إلى امرأة ليغنّي! وكانت تلك الطفلة كافية لروحه المرتعشة”. كما كانت “لور، الرّخام الذي احتاجه بترارك، لنحت تمثاله، في الواقع كانت امرأة عادية وأمّ جيدة، محاطة بالأولاد”، وهاهي ذروة احتدام “موباسان” تقع على رأس “غوته”. يقول: “وغوته كان يلزمه خمس عشيقات (..) ليمتلك مروحة تضم مختلف أنواع الحنان البشري (..) وفي الوقت ذاته كان على علاقة جنسيّة بذكيّة حسناء، وهكذا يشبع الروح والحواس مازجاً الحنان بالشعر، ولم يكن يزدري الخادمة، خادمة الفنادق المزرقّة الذّراعين، الدّهنيّة الشّعر، وعندما يهبط الليل كان “غوته” يلهث بين الأزقة وراء بيّاعات النّشوة”، ويعرّج على “لامارتين” بالقول: “لم تكن ألفير سوى غيمة جُعلت امرأة، تلك الهيئة الحائرة ذات الاستدارات البشريّة التي هي دائماً امرأة الشّعراء”. ولكن، لو نظرنا من زاوية أوسع إلى المسألة ونحن نضع أنفسنا وجهاً لوجه أمام سيل من الأسئلة المقلقة، فإنّنا سنجد أنفسنا تماماً أمام أسئلة الفنّ عموماً ومن ضمنها الشّعر، حيث الواقعيّ لايقلّل من شأن الحلمي ولا العكس. وهدف الواقعيّة لايتحقّق بتهشيم المخيّلة والحلم. فالفنّ حقيقةً، هو الواقعي مكسيّاً بالجمالي، أو الّلعب بالمألوف ليغدو لا مألوفاً. والشّاعر المسكين ليس بيّاع كلمات جوفاء، حين يغنّي. بل عازف قيثارة، أوتارها مسبوكة من هسيسِ الرّيح وشهقات الكائن. من يخطّ ويكتب هو يراعُ روحه، لاقلمه. عامداً إلى إضفاء اللّمسات السّحريّة على الجسد الأنثوي، ليغدو رمزاً متعالياً، خارج حدود الابتذال، جاهداً في تنقيته من النّظرة التّعليبيّة الضّيّقة والسّلعيّة التي تؤطّر المرأة ـ ككائن سامي ـ بمهمّتها البيولوجيّة وحسب. وفي الختام، يكفينا انتصاراً للشّعراء . أن نردّد الكلمات النّديّة للحالم الكبير “أنسي الحاج”: (ما حيلة هذا الرأس الطفولي وقد فُطرَ على الهرب إلى الفراديس، فإذا كان الاعتقاد بأنّ الواقع خطأ وخيال الشاعر على حق هو ضرب من الجنون، فلا بأس بجنون رحيم وخيّر كهذا، وليتقاعد المتعبون(…) سيظلّ الشاعر ينام على هذا الحلم ويصحو، وسيظلّ حلمه أقرب المستحيلات إلى التّحقيق).
أوس أحمد أسعد