هالة حسني.. أيقونة الفن الحالمة
من يبحث في تاريخ الدراما السورية منذ بدء تأسيسها وحتى الآن يكتشف أن روادها الأوائل قدموا الكثير من التضحيات حتى أوصلوها إلى هذه المكانة الراقية، ولا يختلف اثنان على الرسالة التي قامت عليها درامانا منذ انطلاقتها، حيث قدم القائمون على صناعتها آنذاك أعمالاً درامية جدية وجريئة من حيث المضمون والمعالجة، بسبب امتلاكهم لمشروعهم التنويري والفني والإبداعي.
وقد كان للمرأة حضورها الفاعل في هذه الأعمال الدرامية منذ البدايات وحتى الآن، فلا يغيب من ذاكرتنا شخصيات فنية غادرتنا لكن بصمتها في الدراما السورية ظلت تتحدث عنها كالفنانات سلوى سعيد- نجاح العبد الله- ملك سكر- هالة شوكت- نبيلة النابلسي- مها الصالح وغيرهن من الأسماء التي وإن تفاوتت أجيالهن إلا أنهن بدأن في حقبة واحدة، وقدمن الشخصيات التي جسدنها بتلقائية وعفوية، هؤلاء الفنانات اللواتي أسسن لتاريخ الدراما، وهناك من جيلهن من استمر يحمل الراية بكل مسؤولية وحب.
منذ أيام رحلت عن دنيانا الفنانة هالة حسني التي شكلت حياتها الفنية مساحة كبيرة من المحبة والمودة مع الجمهور والكاميرا، حيث عايشناها في الكثير من أدوارها المتميّزة، وهي صاحبة التاريخ الطويل في الفن، فكانت المبدعة والحالمة بأن ترتقي بهذا الإبداع إلى المستوى الذي يليق بها كفنانة سورية، وكان لها ما رغبت حيث تناغمت رسالتها الفنية مع رسالتها الإنسانية عبر مساهمتها في رسم البسمة على وجوه كثير من الناس الذين قست عليهم الحياة، فنانة آمنت أن الفن ليس ترفيهاً ولا متعة بلا فائدة، وإنما توجيه وتربية وشيء له علاقة بحياة الإنسان والمجتمع معاً، لذلك ركزت اهتمامها في خياراتها الفنية على قضايا الناس ومشكلاتهم، وكانت ترفض الأعمال التي تقتصر في مضمونها على الفرجة أو المتعة فقط.
في مسلسل “أشواك ناعمة” الذي أنتج في عام 2005، وفي حلقة الاحتفال بعيد الأم غنت الفنانة هالة حسني أغنية “ست الحبايب” ثم شكرت عائلة “أبو غيث” الفنان سليم صبري على استضافتهم لها في سهرة عيد الأم وتنسحب مسرعة خوفاً أن يتصل أولادها ولا يجدوها في البيت.
وفي موقف آخر من العمل ذاته تبكي أم رفيق “هالة حسني” وتشكو وحدتها قائلة: “الوحدة عم تنخر عضامي، عم أكره أرجع ع البيت طول الليل أفتل بالغرفة لحالي.. بيت بارد ما فيه روح.. ولادي يللي كبّرتهن وتعبت عليهن تركوني وراحوا.. راحوا يدوروا على حالهن ويبنوا مستقبلهم.. أنا ما لازم اندم.. بس حاسة الوحدة عم تدبحني ما عاد قادرة ضل بعيدة عنهن”.
هذه الحالة التي جسدتها الفنانة الراحلة تحمل من الصدق الكثير، حالة تعيشها في الواقع، لذلك جاءت صادقة في تقمصها فنياً، وهي التي عانت من اغترابها النفسي والروحي كثيراً، وفي أكثر من حوار أجري معها تحدثت عن حالة الجحود التي تعانيها مثل غيرها من ممثلين همّشوا بعدما وصلوا إلى مرحلة متقدمة من العمر. ففي حوار لها عبر صحيفة تشرين قالت: «الفنان عندنا يتقدم في السن، فيتم إهماله نهائياً، أو تهميشه في العمل الفني، علماً أن البلدان التي تحترم مبدعيها تحاول الإفادة من طاقات الفنانين المخضرمين وخبراتهم، لكن في بلادنا نرى بعض المخرجين يتعاونون مع ممثلات شابات، ويسندون لهن أدوار الأمهات معتمدين بذلك على الماكياج، متناسين الممثلات المؤهلات أكثر لمثل هذه الأدوار. وتتابع: من جهتي، لم أتعوّد يوماً أن أطلب العمل من الآخرين أو حتى أن أذكّرهم بنفسي. تاريخي الفني هو الذي يتكلم عني. وإذا لم يعرفوه، فأنا لا أستطيع أن أشير لهم إليه لأنني أحترم نفسي، وأتمنى على الآخرين أن يتعاملوا معي بالمعيار ذاته».
آخر مشاركات الفنانة الراحلة كانت في مسلسل “مرايا” عام 2011 ثم توقفت عن الظهور على الشاشة نتيجة لظروفها الصحية واقتصر ظهورها على تمثيليات إذاعية فضلا عن مشاركتها في زيارة أسر شهداء وجرحى الجيش العربي السوري. في عام 2013، ورغم تدهور وضعها الصحي، إلا أنها كانت تتحضر للمشاركة في مسلسل «دنيا2» مع الفنانة أمل عرفة بعد اقتراح المخرج زهير قنوع أن تكون ضيفة شرف، خاصة أنّها كانت إحدى نجمات الجزء الأول، لكنها لم تتمكن من ذلك.
ومن المؤسف أيضاً أن سبب ابتعادها عن الشاشات لا يعود لاعتزالها الفن، فهي سبق وأن صرحت في سنة 2013، بأنها “لم تعتزل الفن، بل الفن هو الذي اعتزلها”، وانتقدت الطريقة التي تدور بها عجلة الإنتاج الفني في سورية.
وبعد أن انتقلت إلى دار الرحمة، كانت آخر أمنياتها كما نقل المقربون منها عبر وسائل التواصل الاجتماعي: “حلمي أن أعود للدراما ولو حتى بمشهد واحد”، ولكن مسيرة حسني انتهت دون أن تحقق حلمها الأخير.
خمسة وسبعون عاماً قضت حسني غالبيتها في العمل الفني رغم أنها حاصلة على «دبلوم سياسة واقتصاد» من ألمانيا لكنها سلكت طريق الفن مغنية على مسارح دمشق ثم اتجهت نحو التمثيل وقدمت مسرحيات عدة ومجموعة أفلام وأكثر من 150 مسلسلاً، فحققت في التلفزيون نجاحات كثيرة، وأسست لنفسها نجومية من نوع خاص ضمن أدوار قلّما تصنع نجومية ممثلة، لمعت في أدوار الأم وتركت بصمة مميّزة تخصها وحدها، عشقت الفن بكل جوارحها، وكرست له كل حياتها، أقعدها المرضُ في البيت، الذي أنهى حياتها وحَرَمَ منها أهلها ومشاهديها، لكن رغم الغياب ستبقى هالة حسني في ذاكرة المشاهدين أيقونة للفن الحقيقي.
سلوى عباس