بين منارات مسوح وأمل زين الدين
بدأ الشاعر الراحل أمل دنقل النشر أواخر الخمسينيات واستمر بالكتابة حتى قبل فترة قصيرة من وفاته في أيار 1983 وهو عمر إبداعي قصير نسبياً لكنه مليء بالإنجازات، فهو الشاعر الذي ينتمي للجيل الثاني من الرواد الذي حقق فرادة وتميزاً ضمن مرحلة تاريخية صعبة.. هكذا فسر الشاعر ثائر زين الدين سبب تناوله لأدب الشاعر المصري أمل دنقل، وأكد على هامش الندوة التي أقيمت مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة احتفاءً بكتابين هامين صدرا حديثاً عن دار الينابيع لصاحبها الشاعر صقر عليشي، الأول لثائر زين الدين وهو بعنوان “أمل دنقل دراسة ومختارات” والثاني بعنوان “منارات شعرية–مقاربات نقدية تذوقية” لعطية مسوح بمشاركة نقدية للدكتور رضوان قضماني والدكتور جمال أبو سمرة.
الشعر بديلاً عن الانتحار
وبيَّن د.زين الدين أن هناك شخصيات من الصعوبة بمكان أن ترسم لها بورتريه واضحاً كما هي الحال مع شخصية أمل دنقل التي أسهمت في بنائها عواملُ عديدة، منها الفقر الشديد، فهو كان إنساناً بلا مأوى، ينتقل من غرفة إلى غرفة، وقد يكون معظمها للأصدقاء، فكان الشعر بالنسبة له يشكل العامل الأهم في منحه توازناً مستقراً وبديلاً عن الانتحار في عالم مرعب، وقد أدرك أن الشعر هو مصدر قوته الحقيقية، ولهذا لم يتخلَّ عن كتابته حتى في أشد حالات مرضه، فكانت “قصائد الغرفة رقم 8” تشهد على ذلك وهي الغرفة التي عاش فيها في مركز علاج السرطان، مشيراً زين الدين إلى أن واحدة من أهم ميزات شعره ذلك الاستلهام العميق للتراث العربي والإسلامي، حيث كان دنقل يقول: “إن العودة إلى التراث هي جزء هام من تثوير القصيدة العربية، وهذا التراث يلعب دوراً هاماً في الحفاظ على انتماء الشعب لتاريخه، ولكن يجب التنبه إلى أن العودة للتراث لا يجوز أن تعني السكن فيه بل اختراق الماضي كي نصل إلى الحاضر استشرافاً للمستقبل”.. ولهذا كان دنقل برأي زين الدين يوظف العناصر والنصوص التراثية بحيث تحمل شحناتها الهائلة وتصبها في النص الجديد، بطرائق ووسائل فنية تجعل تلك العناصر والنصوص القادمة من التراث طيعة قابلة للدخول في النصوص الجديدة دون عناء.. وختم زين الدين كلامه منوهاً إلى أنه اختار لكتابه أجمل قصائد دنقل من وجهة نظره بحيث تغني القارئ عن قراءة أعماله الكاملة.
النقد عملية تذوقية
وعن كتابه “منارات شعرية–مقاربات نقدية تذوقية” أشار الأديب عطية مسوح إلى أنه أراد أن يبحث موضوع علاقة النقد بين العلم والتذوق، ونصيب كل منهما فيه وهو موضوع قديم جديد تناوله النقاد والمنظِّرون في العصر الحديث ولكن دون أن يصلوا إلى توافق، ولعل هذا الأمر برأي مسوح طبيعي لأن الأدب بعامة والشعر بخاصة عمل إبداعي، والإبداع لا يسير أو يقوم وفق قوانين صارمة، لذلك بيَّن في الكتاب أن النقد عملية تذوقية، والنص النقدي نص أدبي، والناقد يستفيد من معطيات علمية معينة في تحليل وصوغ الأحاسيس الجمالية التي أثارها النص، وبيّن أن التذوق فطريّ ونسبيّ إلا أنه يتجلى بأعلى درجاته لدى النقاد، وذائقة النقاد ليست فطرية فقط بل مهذبة ومثقفة.. من هنا تساءل في الكتاب: ما هو مفتاح الدخول إلى ذائقة القارئ؟ أما الجواب عنده فكان أن يضع الناقد يده ثم يد القارئ على ما يمكن اعتباره بؤرة الجمال أو بؤرة القبح في المادة التي ينقدها ثم تأتي المفردات أو التفاصيل النقدية الأخرى، وقد حاول مسوح جلاء ذلك من خلال بعض الأمثلة، علماً انه اختار قصائد قصيرة نسبياً أو متسمة بالإيجاز، ويعود ذلك -كما أوضح- إلى اعتقاده أن الشاعر المُجيد قادر على التكثيف، وأن خبرة الشاعر وحرفة الصوغ والبناء الشعري تتجليان في القدرة على التعبير بعيداً عن الإطالة، أما النصوص التي درسها في كتابه فقد كانت “حديث أسمر” لوصفي القرنفلي “في رحاب القصيدة” لصقر عليشي “الإبريق” لإيليا أبو ماضي و”درس من كاماسوترة” لمحمود درويش، وقدم من خلالها مقاربات تطبيقية للأفكار النظرية التي جاءت في بداية الكتاب، محاولاً من خلالها أن يستكشف مَواضع الجمال، وأكد أن اختياره لهذه النصوص لم يكن عشوائياً وهو الذي حرص على أن تكون رفيعة المستوى فنياً، تتناول مواضيع جديدة وتحمل مواقف إنسانية، ويشكل كل نص منها وحدة جمالية متماسكة تتحلى بميزة الإيجاز.
ذائقة ناقد محبّ
في عرضه للكتاب توقف د.رضوان قضماني عند أكثر من ثالوث شكَّل العمود الفقريّ للكتاب، وأشار إلى أن مسوح قسم كتابه إلى قسمين، الأول نظريّ والآخر تطبيقيّ تناول فيه أعلاماً في عالم الشعر، وأوضح أن الكتاب بحث في الجماليات، والذائقة ترتكز على جماليات استندت على مدارس اعتمدها مسوح لتمر علينا مرور الكرام، فالذائقة -كما بيَّن قضماني مسألة ذاتية، إلا أننا في هذا الكتاب سنجد أنفسنا أمام الذات التي تبني الذائقة، والمنهج المتبع في توضيح هذه الذات والذائقة في كتاب مسوح هي ذائقة ناقد محب يرتكز على أدوات نقدية، وبالتالي رأى قضماني أن الحب في هذا الكتاب أداة نقدية ونظرية إلى جانب المناهج التي اختبأت وراء الذائقة ثم النقد الذي امتلك أدواته الصارمة، ولأن مسوح -كما أشار قضماني- درس الفلسفة إلى جانب اللغة والأدب نجد أن هذه الذائقة والنقد امتلكا أدوات الفلسفة وعلم النفس.. وأوضح أن النقد الذي يعتمد الذائقة صار قديماً، والنقاد يحاولون تجاوزه باتجاه ما يسمى بالنقد اللساني والسيكولوجي والنقد البنيوي والوجداني وما بعد الحداثي، ومع هذا حاول مسوح أن يعيد الاعتبار للذائقة الأدبية، وبالتالي للنقد التذوقي الذي يعتمده مسوح وفق أسس دفعته لتناول نظريات دون أن يسميها كالنظرية السيميائية والتواصلية حين يبحث عن علاقة المتلقي والقارئ بالنص الذي يقدمه.
لماذا الآن
ولأن أغلب اشتغالات زين الدين تتقصّد الكيف لا الكم، وإن حقّقت الكم الذي يطمح إليه أيّ أديب فهي تتقصّى أيضاً -كما أشار د.جمال أبو سمرة- ولا سيّما في الدراسات الأدبيّة الشخصيّات المؤثّرة في الأدب العربي ومنها شخصية الشاعر أمل دنقل.. أما لماذا أمل دنقل الآن فقد أوضح د.أبو سمرة أن ذلك مرتبط بما تمرّ به سورية وعدد من الأقطار العربية اليوم وموقف الشعراء الآني الذي إمّا آثر الابتعاد والتفرّج، وكأنّ الأمر لا يحصل في وطنه وهو يتابع حياته بشقيها الطبيعي والإبداعي بصورة آلية من غير أن يسجّل موقفاً يُذكر له إزاء ما يدور من أحداث، وإمّا أن ينخرط في تناول المرحلة الراهنة بصورة صادمة يغلّب فيها المباشرة والتقريريّة والصراخ على حساب الشاعريّة والفن، حيث أن المرحلة التاريخيّة والمخاطر التي تعرّضت لها الأمّة في عهد دنقل هي المخاطر ذاتها التي تتعرّض لها الأمّة اليوم، مخاطر تهدّد العرب والعروبة.. وبين د.أبو سمرة أن الكتاب ينقسم لقسمين، الأوّل نظريّ يقع في خمسين صفحة، وهي مقدّمة غنيّة بدلالاتها ورسائلها الواضحة والمشفّرة، كما أنّها ترسم خطوطاً عريضة لدنقل الشاعر والإنسان الفقير المعدَم، فحاول زين الدين رسم بورتريه لهذه الشخصية عبر ما سخّر لها من شهادات زوجته عبلة الرويني.
وبعد سرد لبعض ما جاء في الكتاب ختم د.أبو سمرة كلامه مؤكداً أنّ إحياء ذِكْرِ دنقل وإنعاش الذاكرة بصور من حياته وشعره هو حلقة وصل تصل ماضينا الطافح بالمرارة والخذلان بحاضرنا الذي يكرّس ذلك، وليس أدلّ على ذلك من ربط أول اختيار لزين الدين بدءاً من قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” إلى آخر جملة شعرية اختارها في الكتاب: بينما الناسُ خيلٌ تسيرُ إلى هوَّةِ الموتْ!!.. ونوه إلى أن كتاب زين الدين إضافة حقيقيّة للمدونة النقدية العربيّة بصفحاته الخمسين الأولى لما فيه من أصالة وجدة وابتكار، وباختياراته الشعريّة المدروسة بعناية لما يحمل من دلالات تبحر بنا متجاوزةً الزمان والمكان، ولاسيّما أنّ زين الدين اختار القصائد التي تمثّل صفوة تجربة دنقل التي يبرز فيها التجاور ما بين الفن والالتزام من غير أن يطغى أحدهما على الآخر.
أمينة عباس