في القراءة وانتباهة اللّون
ما إن رأى الفيلسوف والكاتب الصّوفي الشّهير، “ابن عربي” جلالَ الدين الرومي، وهو يسير وراء أبيه ذات يوم، حتى هتفَ: سبحان الله، محيط يمشي وراء بحيرة!”.
السؤالُ المزهرُ، الذي يطلّ من عروة المقبوس السّابق، هو: كم هي نسبة الذين يرون، كما رأى ابن عربي؟. ولكن مهلاً، أهي دعوة لتشابه القراءات؟. شخصيّاً، أعتقد أنّ الاختلاف، هو القانون. ومن هنا، فلكلٍّ قراءته لنصوص الحياة والوجود عموماً. والمطلوب فقط، أن تتّسع زاوية الرؤيا، لتتّسع العبارة بدورها. حينها قد نرى المحيط في قطرة ماء، والعكس أيضاً. حيث تضيق المسافة بين القارئ والمقروء، عبر جسر الذّائقة وقد تثقّفت بزبد اللون أو بحبر الحرف، من يدري!.
هكذا، ودائماً ضمن إطار، كمن يتهيّب أبصارَنا العارفة. يقبع في عتمة ظلاله، أقصدُ في عتمة ظلالنا، أقصدُ في ضوء عتمته/عتمتنا ، أقصدُ.. لا أعرف!. مختلساً النظر بحيويّة فائقة تمتلئ بغدق الحياة “زوربا” اللّوحة، كما أشيعَ عنه، لصّ الترقّب الماطر، سليل أباطرة العبث الجميل، يوزّع حمّى نظراته على الحضور أجمعين. راقصين وسكارى، حالمين ومشرّدين، شعراء، وصعاليك، هل من فرق؟!. كلٌّ يحاول أن يجد معنى لحياته حسب طاقة الانبعاث والخلق لديه، لكن, ولحكمةٍ في مخيّلة الضّوء، تُشرقُ الصّورة ويخضرّ الحرف. تنبثقُ الشّرارةُ ويترمّد الكائنُ. تبقى الكلمة ويرحلُ الشاعر. يتبخّرُ الحبر ويمطرُ اللّون. تنعتقُ الفكرةُ وتشرد الدلالة. فالصّورة كما الكلمة فعل كيمياء وخلق، حين تستطيع الريشةُ، والكلمة اقتناصَ جوهر الكينونة، لتبقيه حضوراً فارهاً. الأصل يبقى،لأنّ له شرف الانتماء للبرهة/النبع وهي تنبثقُ من فم الكينونة في لحظة فيضها البكر. وهل الكينونة سوى أنوثة الكون؟!.الأصل يبقى، لأنّ له شرف الإزهار من اللّاشيء، من العدم. وهل العدم سوى الوجود متخفّياً بزهرة الآخر!.ما يميّز الفنّان،الشّاعر خصوصاً أو ما هو مطلوب منه حقيقة، هو فقط: أن يسهر متربّصاً، متبصّراً في ثياب العتمة ليرى كيفيّة انبلاجِ زهرة الغيب من شفقِ الواضح/الغامض.
الصّورة أمامنا، تنظر بتدفّقٍ لا ينضب نحونا. تستجلي خواءنا. يجلسُ زوربا، ثملاً بانتباهة الحياة المورقة. إلى طاولته الخشبية. زجاجة النّبيذ بجانبه كماءٍ نمير. تتّقد عيناه بين صحوةٍ وأخرى، بين غيبوبةٍ ومطر. كأسه نصف ممتلئ، نصف فارغ!. وهل يعرف كأس الحبّ امتلاءً أو فراغاً!.كأسه مثل كؤوسنا جميعاً، فارغة/ ممتلئة حسب طاقة العين الرّاصدة. العين الثالثة التي ترى مالا يُرى. هو يعرف طعم الارتشاف، ذاك الفعل الماهرُ، الذي ينتهي به إلى الارتواء. ونحنُ لا نعرف سوى ممارسة آليّة الشّربٍ وحسب. الحكمة كلّها في الارتشاف وطريقة التّذوّق.
اللّحية البيضاء، الشّعر الأشعث، الجسد المتهتّك, النّظرة الثّعلبيّة العابثة, الرّوح المشعّة، قبّعة القشّ الهشّة، تؤطّر الرأس بأسئلةٍ غامضة. القميصُ المفتوح عن أعشابه كنافذة حرّيّة. كلّ ذلك يليقُ براءٍ أو حكيم. أهو سكّير حقّاً، أم نحن كائنات ضيّقة الرؤيا والرؤية. تلك هي المسألة. وذاك هو جوهر التلقّي، وكيف يجب علينا أن نقرأ ومن أين، ومتى، ولماذا؟. فالقراءة التّفاعليّة لا تستطيع أن تبدع نصّها، وتعيد إنتاجه من جديد، إلّا بطاقة المبثوث العالية، وموهبة التّلقّي الدّربة. أو فلندع الدّلالة لتشرّدها البهيّ، تائهةً كدفقة ماء، أو كغزالة تجرحُ انتباهةَ السّهلِ. وما يستتبعه ذلك، من فشل في الإمساك بتلابيب النّصّ وضفائره. الكأس الغائمة انتظاراً، تستمطر قارئاً ظمآناً ليرشفها، ليقرأ فراغها الممتلئ كما امتلاءها الفارغ. ثمّة من يرى الفراغ ويدمنه، وبالتالي هو لن يرى امتلاءه ذاته. وثمّة من يمتزج بقاع الكأس حيث الثمالة الفارهة. ليزيدها نبوغاً وهسيساً.
لم يعد أحداً يهتمّ باسم الفنان مبدع اللّوحة بتجلّياتها المختلفة، كما لم يعد أحد مشغولاً بتلك الأسئلة المقلقة تتلاطمُ في قاع المشهد. وحدها الصّورة ، تبزغُ في فضاء البارات والصّالونات والأرصفة، والبيوت الآمنة، والغاليرهات. محرّضةً كلّ من يراها على ابتداع رقصته الخاصّة على ضفّافِ هذه الحياة. كما تفعل لوحةُ الخلق البكر.
لوحة السّكير الثّمل بالحياة، ليست مجرّد لوحة. تتنوّع تأويلاتها بتنوّع ثقافة القارىء/المتلقّي. بل هي الرّقص وقد خرج من لوحته ومشى بيننا بقبّعة من قشٍّ يانع الخضرة. انظروا إليه يتجوّل بفرح، يرشقَ يقظتنا برذاذِ الدهشة، يقظتنا الغافية كما غفوتنا اليقظى. لتصهلَ أكثر. هل من يرى ويسمع ويشمّ؟! من فضلكم لا تؤطّروا اللّوحة/ النّصّ بالبلادة والانغلاق، فهي أنتم وقد عرّش الياسمين على شرفات أرواحكم، هي أنتم، وقد تعرّت أفكاركم من سخامها وتوثّبت حوّاسكم إلى أقصى انتباهتها، لتقطفَ عرائش التّيه. تعالوا، أيّها العشّاق واقرعوا كؤوسكم، لنشرب معاً نخب الكلمة/اللّون. أيّها الرّاقصون الثّملون بحبّ الحياة، لا تيأسوا، فثمّة الكثير ممّا يجمعنا. لنغنّي مع سلافة الشّعر:
منذُ ذاك الكأس الشّفيف، ذو النصفِ الممتلئ والشّغف الذي لا ينضب.
منذ تلك اللّوحة النّاحلة بهشاشتها تسند جدار الحياة، منذُ نزفت رئتا ذاك الفنّان آخر شهقةٍ للّون. واستراح في كرسيّه أعالي الضّباب. ونحنُ والماء توءمان.
“زوربا” أيّها الجميل الحالم. من فضلكَ، لا تتوقّف عن الرّقص، صديقي.
اللّوحة لن تكتمل. والكأس لن تفرغَ أبداً.
أوس أحمد أسعد