ثقافة

 كنايسي في لقاء شعري  باتحاد الكتّاب.. شاعر الومضة والقفلة المدهشة

كان يحلم أن يصبح موسيقياً يؤلف ألحاناً تختزل كل ما في الحياة من حبّ وأمل ولقاء وفراق وألم، لكن الأقدار شاءت أن يصبح شاعراً ينسج مفرداته على نغمات الناي التي كثُر ذكرها في قصائده. يميل نحو الصوفية والإيغال بعالم التأملات والوجوديات والإنسانيات في جانب ما، وفي منحى آخر نراه متأثراً بخصائص المدرسة الرومانسية والإبحار بعوالم الطبيعة التي استمد منها الكثير من التشابيه، وفي الوحدة التي يسكن إليها والتي منحته القدرة على إثارة التساؤلات في مخاطبة جدلية الحياة والموت، وفي مخاطبة الزمن وتأثيره على الذات، قصائده المتنوعة والتي شغلت فيها قصيدة الومضة القائمة على التكثيف حيزاً واضحاً، نقرأ في سطوره عنفوان المتنبي ورومانسية نزار قباني، تميّزت قصائده بوفرة الصور البيانية والتضاد بالمفردات لتمتد إلى المقابلة وإلى المفارقات والمقارنات، وتنوع القوافي والجرس الموسيقي. لكن الأمر اللافت هو الروح القصصية في شعره والقفلة المدهشة للقصيدة التي تثير القارئ وتربكه أحياناً، إضافة إلى مساحة كبيرة من الحلم الذي يمنحنا القدرة على الاستمرار، والحبّ الذي يلازمنا ربما في واقعنا وربما في تخيلاتنا. وقد وظّف ثقافته الغربية والعربية والموسيقية في شعره، والأهم أنه لم يقف عند مفترق الطرق إذ حدد موقفه في كل قصيدة.

كنايسي لم يكن شاعر القصيدة فقط، وإنما كان شاعر الحياة أيضاً، وفي اللقاء الشعري الذي أقامه اتحاد كتّاب العرب ممثلاً برئيس الاتحاد د. نضال الصالح قدم الشاعر محمد كنايسي مجموعة من قصائده التي عبّرت عن عمق انتمائه إلى سورية. وتناولت جوانب عدة من قصائده، وكانت حلب حاضرة فيها.

استهل اللقاء د. نضال الصالح بالترحيب بالشاعر محمد كنايسي، وأشار إلى أننا في هذا اللقاء سنتعرف إلى صوت شعري أدبي إضافة إلى الصوت الفكري السياسي العروبي الذي يتمتع به.

يوميات شعرية

وتحدث الشاعر كنايسي عن عودته إلى كتابة يومياته الشعرية بعد انقطاع سنوات طويلة، ونوّه إلى أن النصوص التي اختارها هي مقطوعات متفاوتة، بعضها مطوّلات وبعضها قصيرة وستكون جزءاً من ديوانه “ديوك الغريب” قيد الطبع.

وقد بدأ بقصيدة جاء فيها:

“وحدهم أدركوا”

أن عالمنا لم يعد

صالحاً للحياة

ولا للأمل”

وصف فيها انعكاس تبعات الأزمة في ظاهرة الهجرة الغائبة ملامحها متناسين كل الحب الذي عاشوه في مدينة الياسمين “أيقونة الياسمين وشدو الحنين” ليرجو الخلاص من هذا الكابوس الذي خيم على حياتنا “أمل ببلاد يسورها الزهر والناي”.

لينتقل إلى توظيف الغزل والوصف بالمعنى القريب وصولاً إلى انتصار الوطن”، ليتطرق إلى تساؤلات طالت الحرب الطاحنة التي نعيشها.

“متسائلاً أين البشر

ماتوا جميعاً في الحروب

واستوطنوا الحفر الكبيرة”

لنصل إلى الحدث الأهم إلى تحرير حلب التي حيّاها بقصيدة:

“قد جاء نصرك يا حلب”

وتوقف الشاعر مطولاً عند وجوديات وتأملات ناجى فيها الخالق واستسلم لإرادة الموت الحقيقة الوحيدة في الوجود.

“هو الموت أعمى

فليس يميز بين كبير

وبين صغير

وبين قبيح

وبين جميل”

ومما يلفت الانتباه الزمن الذي يفعل الكثير بتغيراته وتبدلاته، فالزمن كان هاجساً يؤرق الشاعر ويخيفه أحياناً من نوائب الدهر، ولكن الأجمل كان وصفه للزمن الذي نال من الإنسان في قصة شعرية في لقاء بارد بين حبيبين باعدت بينهما السنوات وأثقلتهما بالهموم.

“لماذا التقينا عند مدخل الصيدلية”

ومن الومضات الجميلة التي قرأها كنايسي والتي تقاربت بشكل واضح مع إحدى صور نزار قباني قصيدة “قرأتُ الجريدة”. والأكثر وقعاً كانت الومضة التي تحكي ضمن قصتها الشعرية عن ألم الفراق.

“كؤوس الشاي بعدك في حداد

وتبكيك الملاعق والصحون

هنا مشط هنا شال حنون

حذاؤك وحده يكفي لقتلي

فماذا يفعل العطر اللعين”

لتتقاطع مع قصيدة العطر في لمساته الحميمة وألمه.

“هكذا أفهم العطر

جرحاً نازفاً

ونافورة من دماء”

ونتوقف عند ظاهرة الموسيقا واللون في شعره فذكر في إحدى القصائد باخ وبيتهوفن، واعترف بعشقه للموسيقا التي تداوي جراحه “لايسعدني إلا شيطان الموسيقا”. ليختتم هذا اللقاء الساحر بقصيدة خاصة تنم عن آلام الفقد وتأثره برحيل أمه وهو بعيد عنها “أماه”.

“أماه

لا أريد أن أزعج

نومك العميق

لكنني جدّ تعيس

والطريق

سيل من الآلام

والدماء

وكل من يعرفني يلومني

على الشقاء والبكاء”

الرهافة الشعرية الباذخة

بعد انتهاء كنايسي من إلقاء قصائده عقب د. نضال الصالح بأن كثيراً من الدهشة قد اجتاحته وهو يصغي لنغم الشعر، لاسيما أنه اشتغل بحقل النقد الأدبي وبأنه لايصغي إلى النص بوصفه نصاً بقدر ما ينظر إليه بوصفه بناء وشكلاً وجوهراً ومحتوى وعمارة، وأوضح بأنه اكتشف الرهافة الشعرية الباذخة في نصوصه، وبالعمق الذي تتصف به نصوصه التي تراقب الوجود ويعاينها بقلبه.

وأضاف بأن الشاعر كنايسي قدم نصوصاً تنتمي إلى حالات إنسانية بمستويات متعددة لبناء الجملة الشعرية، فلم نجده يمشي في طريق مستقيمة في بناء عمارته الشعرية، ليخلص إلى أنها نصوص بُنيت بإحساس عال وجماليات مشغولة بدفق إنساني باهر بالمعنى الدقيق للكلمة.

وقد أُغني اللقاء بآراء ومداخلات حيث تحدث الكاتب نصر الدين البحرة عن متابعته الخواطر التي كان يكتبها كنايسي من وقت إلى آخر، فقال: كنت أشتم رائحة الشعر ولم أكن أعرف أنه شاعر، واليوم أراه شاعراً كبيراً وقصائده ذكرتني باللوحات التشكيلية الانطباعية، وكيف استطاع أن يزاوج بين الصور والمفردات ويجعل الأوزان الشعرية في خدمتها ببساطة لغوية مع الحفاظ على الروح الشاعرية، فذكرتني يومياته بما كتبه جبران خليل جبران.

وكان للشاعر محمد حديفي رأيه فقال: لقد قرأتُ المجموعة بعمق ولدي بعض الانطباعات، إذ وجدت تقارباً بينه وبين الشاعر عمر أبو ريشة بالقفلة المدهشة، وفي حضور الوطن في كل مفرداته، فحينما قرأت قصيدة حلب أحسستُ أنه حلبي الأصل، في تصويره الهمّ اليومي للمواطن، كما أشار إلى أهمية الومضات الشعرية القائمة على فنّ الاختزال والتكثيف.

ليعقب د. نضال الصالح بأنه رأى تأثر الشاعر بفلسفة التصوف لابن عربي وابن الفارض، وأن قصيدة الومضة لديه تقترب من شعر الهايكو.

ورأى د. حسن حميد أن الشاعر كنايسي وظّف كل تقنيات القصة القصيرة في شعره، ليتوقف عند أهمية القفلة المدهشة التي تسمى بالغضب السامي، وتابع عن تأثره بالسياب لاسيما ببداياته بواو السياب وبتأثره إلى حدّ ما بعلي الجندي، ليخلص إلى أن ديوان “ديوك الغريب” سيحدث هزة في المشهد الثقافي.

وأشاد د. جابر سليمان بتجربة محمد كنايسي الشعرية، ورأى الإعلامي ميشيل خياط أن هناك تشابهاً ما بين تجربته وبين شعر نزار قباني ومحمود درويش، في حين وجد الأرقم الزعبي أن شعره يتشابه مع شعر مواطنه (أبو القاسم الشابي) مع اختلاف العصر والظروف طبعاً.

الحرية الداخلية

واختتم اللقاء بتعليق الشاعر محمد كنايسي الذي تحدث عن سعادته بهذا اللقاء وأشاد بأهمية المداخلات وملامستها بعض الحقائق، وأضاف بأنه لم يقدم إلا بعض الجوانب من تجربته، وبأن الشعر نوع من تناقضات الحياة والإيغال بالفكر، وهو نوع من المغامرة المفتوحة على المجهول، مغامرة صعبة ولاحدود لها ولا سقف لها، وبأنه رغم التزامه بقواعد اللغة العربية في شعره، إلا أنه يشعر بأنه يكتب وفق الحرية الداخلية التي تبدع بالألم.

ملده شويكاني