عطر الموتى
ذهبت أمّي إلى موتها المبكر جداً, كانت تحب الحياة وأصدقائي وتحبني أكثر, وتحب من الأسماء اسم أحمد, وتتعاطف مع كل وحيد لأمّه ربما لأنني وحيدها، لكنه الموت, هذا الزائر السمج والقاسي الذي يقتحم أسوار الأرواح الماضية إلى ما تبقى من بنفسج أيامها, لإعادة تفاصيل الفصول, ولربما محاولة خائبة وخاسرة لتصحيح خطأ الموت, سيد اليقين والحبر المندلق من نوافذ الحلم الجميل إلى سرمد العتمة, التي تفضي إلى سراديب لا قرار لها.
كانت أمّي مشغولة بحياكة (كنزة صوف) تدفئني, لعلّها تناست أنّ صدرها المسيج بأهداب عيوني وشغف روحي المنسوجة من طيب عطر روحها هو دفئي, لكنه الموت هو الذي باغتتها واغتال روحها رغماً عنها وعني, ماتت هكذا بشكل مفاجئ لم تكن مستعدة لاستقباله.
من عادة الموت, على الرغم من قسوته, أن يكون في بعض ما يقترفه من قهر وحزن واستلاب, في بعض الأحيان (وهي أحايين نادرة جداً) يمارس بعض الكياسة والتهذيب أن يرسل رسالة رحمة للذي ينوي اغتياله, لا رصاصة رحمة, بل ذهاب أبدي من هذه الحياة, إذ إنّه على غير عادته يرسل رسالة للذين ينوي جرهم من رقعة الشطرنج التي يتربع على عرشها بكل تبجّح, فهو إن فعل بعض التهذيب, يرسل رسالة يمهّد فيها لمحبّي وللمقربين من الضحيّة التي ينوي أخذها, كأن يعرّضه لحادث سير مروّع, أو مرض صعب, مما يجعل الموت خبرا مؤجلاً, لدموع تذرف بسخاء وبحزن مبكّر على عزيز لن يعود أبداً, ولن نراهم إلا في الأحلام, جسد يتعمّد بالدموع ويلتحف بالبياض وبعطر الموتى, وبكمّ هائل من التراب, وبعض الخشب ووسادة من حجر, وقارورة عطر أخيرة لم ولن يستنشق رائحتها الميت, فقط نحن من يشمّها, وإذا كنا نحب الذي غادرنا إلى الأبد , فقبلة أخيرة، وشاهدة تبتهج حين يغسلها المطر, سيظل عطر الميت الذي نحبّ يسكن تلافيف دماغنا إلى أبد الآبدين. كانت أمي تلك القديسة الطيبة – كما يحلو لجيراننا السريان الطيبين أن يقولوا عنها: (أمّ أحمد قديسة).
ماتت أمّي باكرا جداً في إحد مشافي مدينة القامشلي, وكنت في سنتي الجامعية الأولى, أحضرت قارورة عطر من العطر الذي تحبّه أمّي, ومزجته بدموعي, وغسلت به وجهها الملائكي، وبدأت أول خطوات تشرّدي وتسكّعي على أرصفة الحياة والمدن, كان من الممكن أن يكون الموت أكثر لباقة.. كان من الممكن أن يطرق الباب ببعض الهدوء, أو أن ينتظر عند النافذة ولو قليلاً, أو أن يقول لها: “سأمنح روحك بضعة أيام تسلّمين فيها على الأحبة وتودعيهم”.
كان من عادتي حين أسير على أرصفة (القامشلي), أن أقرأ نعوات الموتى, لكن بعد أن ماتت أمّي لم أعد أهتمّ لهذه العادة.
قرأت الفاتحة على روح أمّي وأمهات أصدقائي, على الرغم من أن صورتها لا تفارقني, كذلك لمسات حنانها مازالت ذكراها حاضرة, وصوتها الذي لن أنساه ما حييت, حتّى رائحة عطرها مازال يسكن خلايا دماغي, وطعم الدمعة الأخيرة هو الطعم الذي لا ينسى.
ثمة طغاة وجلادون وقساة قلب في العالم. لكن هل هناك أكثر قسوة وتعذيباً وقهراً من الموت؟. وهل يعرف الموت أيّ قسوة وأي حرمان يمارسهما ضدنا حين يخطف منا من نحب؟!.
أحمد عساف