ثقافة

“مقتل بائع الكتب”.. أيّة شعرة واهية تفصل بين المعقول واللامعقول!

“يمشي المرزوق بضع خطوات، وفي لحظة خاطفة يتوقف عن السير، يرتعش، ينكفئ، يترنح، يقع، يتمدد على بطنه.
يقترب منه شابان، ظناً أنه عثر بحصاة، أو بثلمة صغيرة في كونكريت الرصيف أو أصيب بالإغماء أو أي شيء من هذا القبيل؛ انحنيا عليه؛ بوغتا ببقعة دمٍ تتسع تحته تسيل نحو الشارع؛ تراجعا وفي لحظة خاطفة تالية فهم المارة الأمر انفضوا من حوله كما لو أنهم يهربون من وباء”.  هكذا انتهت حياة محمود مرزوق الذي تدور حوله حكاية الرواية، وهي من بين الروايات التي وصلت إلى قائمة جائزة البوكر القصيرة  للكاتب العراقي سعيد محمد رحيم.

إغراءات القراءة
إضافة إلى الكثير من العناصر التي ستدفعك لقراءة الرواية، يشكل العنوان إغراء إضافياً للمسارعة في البحث عنها والقراءة والمشاركة في التفتيش عن حل للجريمة، في أجواء تعيدك إلى رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي في تصويرها لأحداث العراق في العقد الماضي.
رواية تحمل بين صفحاتها التي تجاوزت المئتين، العديد من القيم والمشاعر، من ازدواجية يعيشها المثقف في أزمنة صعبة، قهر وبؤس يقع على إنسانه، حب عنف انكفاء هروب والأهم أسلوب اتبعه صاحب الرواية في سرد الأحداث، يسحبك سريعاً إلى داخلها، وكأنما أخذت على حين غفلة من بين المشاهدين إلى عمق الحدث على الشاشة؛ لتتجول ما بين حيوات الشخصيات “هيمن قره داغي، الرائد المقدادي، فارس ابن شقيقته، ناتاشا، وجانيت، رباب وغاد وسواهم” من الشخصيات التي تدور في فلك محمود مرزوق، الذي أثار مقتله الخوف والريبة في المدينة.
” قال الشاهد الذي امتنع عن الإدلاء بشهادته للشرطة، لمصطفى كريم هامساً في أذنه، أن الشاب كان طويلاً، يرتدي دشداشة بيضاء وجاكيتاً رصاصياً، أو أزرق، أو بأي لون قاتم، إذ بماذا يهم لون جاكيت القاتل طالما أن صاحب محل النظارات نفسه ليس متأكداً مما رأى، ولا نية له للتورط في شهادة قد تكلفه حياته”.
ستنفصم ما بين حياة القتيل على أرض العراق وما بين الجزء الهام الذي أمضاه بين مدينتين أخريين؛ باريس وبراغ، وهكذا ستكون مضطراً لملاحقة الصحفي ماجد الذي سيأخذ دور الراوي، والذي يعمل في صحيفة “الضد” وهو انعكاس لعمل كاتب الرواية الذي عمل في مجال الصحافة، وماجد كان قد طلب إليه البحث في خلفيات الحدث وفي سيرة حياة المرزوق بعد أن ذاع خبر مقتله الغريب.

الصحفي الراوي
سيتوجه ماجد البغدادي إلى المدينة، إلى بعقوبة مسرح الجريمة وهناك سيقيم في منزل رجل يدعى حيدر، ليبدأ رحلته في البحث عن خفايا حياة بائع الكتب المنكوب، يستحصل عليها من أصدقاء له وأقرباء، صور وقصص تدور حوله صور طفولته وإقامته في الخارج، وتسجيلات بصوته حول أسباب عودته، وتدويناته، لمجريات أحداث هامة مر بها العراق.    يقول مصطفى  كريم صديق المرزوق وقد سأله عن سبب عودته إلى البلاد، لماذا ترك باريس: “سألته ذات مرة عن السبب قال: أبداً لم أستطع التأقلم خارج هذه المدينة كانت لي آرائي التي لم تعجبهم في براغ، لم يبعدوني لكنهم فرحوا بالتأكيد حين غادرتهم/ ومن ثم ظروفي كانت صعبة في باريس” يكمل مصطفى؛ أظن أنه كان يخفي عنا السبب الحقيقي.
“كيف لشخص مثل محمود المرزوق، فنان وكاتب عاش سنوات عديدة في براغ وباريس وجاب نصف أوروبا وربما بعضاً من مدن شمال أفريقيا أن يعيش شيخوخته في مكان كهذا” وهنا في مكان إقامة القتيل سيكتشف الكتب المفضلة للمرزوق” موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، الاستشراق جنسياً” لآرفن جميل شك، ويوميات دونها محمود بعنوان: “يوميات الخراب” التي تسجل الأحداث التي شهدها العراق في بدايات العام 2003 ومنذ التاسع من نيسان بالتحديد، وفيها ستتكشف حقيقة الحب الوحيد الذي عاشته غادة التي وقف اعتقاله في العام 1963 دون إتمام زواجه بها، وتهيمن أجواء تجربته تلك على مجريات الرواية.   ستبقى أنت كقارئ للرواية مقحماً دون إرادتك في الأحداث حتى أنك ستشعر في بعض الأحيان بالذنب أو ستحمّل نفسك بعض المسؤولية حتى بعد أن يحين الوقت ويتم إلقاء القبض على المتهم بالقتل، إذ سيبقى يراودك السؤال: “ماذا لو أن القتل تم بالخطأ، لعله ذهب ضحية جريمة بالصدفة؟!. وهو الاحتمال الذي ورد على لسان الرائد المقدادي الذي تعرف عليه ماجد خلال البحث الذي كان يجريه، سيتصل به بعد وقت طويل ويقول له: “إن صدقنا ما يقولون، أقصد بقية الجماعة من المخططين والمحرضين، فالقاتل قتل الشخص الخطأ، لم يكن المرزوق على لائحتهم”!!
سيصرخ ماجد ببينه وبين نفسه، إذ من سيستجيب؟: “أيمكن، لا غير معقول، ولكن أية شعرة واهية تلك التي تفصل بين المعقول عن غير المعقول في هذه البلاد”؟
سعد محمد رحيم كاتب من  مواليد العراق عام 1957، عمل في التدريس والصحافة، لديه ست مجموعات قصصية وعدد من الكتب التي تتمحور حول الفكر والنقد، وفي جعبته إلى جانب مقتل بائع الكتب، “عشق الكراكي” التي فازت في العام 2000 بجائزة الإبداع العراقية، و”ترنيمة امرأة، شفق البحر”.
بشرى الحكيم