ثقافة

عرّاب الخيبة

أنا عرّاب الخيبة, عرّاب التنكر الفاشل جداً, لديّ قناعان أساسيان أحدهما ارتديه في النهار وآخر في الليل, ولديّ أربعة أقنعة (احتياطية) أعلقهم فوق رأسي لا أحد يراهم سواي, أخفيهم مثلما يخفي الغريب صوته الحقيقي, مثلما يخفي الضال لعنته الأخيرة في قبعة ما تشبه قبعة الإخفاء, كيما يستدل عليه حارس بوابة القرية العتيقة.
قناعي النهاري إلى حد ما يشبهني من حيث الطيبة والخيبات, لكنه يصّر على مطاردتي بكثير من القسوة والعذاب والقهر, حيث إنه يرديني دائماً مضرجاً بويل خيباتي, والهزائم, التي تطاردني وهو يؤكد لي أنني المذنب والخائب والخائن لنفسه.
أتنكر في الليل حين أسير في الطرقات وعلى الأرصفة, أرسم على وجهي ابتسامة ليست لي, واستجدي أخرى من امرأة عابرة على رصيف قلبي, حين أفشل في التحدث لإحداهن, ألجأ لتلك الصبية المتسولة, التي تتنكر بثوب ليس لها, وتستعير ابناً ليس لها.
يعجبني تنكرها الخجول, وتلك الجملة الوحيدة التي ترددها مثل ببغاء نسي كل الجمل وحفظ جملته الأخيرة, أدفع لها ثمن (ربطة) الخبز ليس من أجل ذلك الدعاء الذي تتمناه لكل من يدفع لها, بل لأرضي تنكري، ولربما بعضاً من تنكرها.
أنا الولد الخائب, عرّاب الخيبة, وعرّاب التنكر الفاشل جداً, حين اكتشفت بحدسي وبإحساسي, أنني ذلك الولد الخائب, والذي كلما ابتكر قناعاً, اعتقده بوصلة له ومتاهة للآخرين، لكنني حين اكتشفت عكس ما كنت اعتقده وأتوخاه, ذهبت إلى أبعد من ذلك كثيراً, حين لذت بالفرار مني وإليّ, ذهبت إلى شخصيات قصصي القصيرة, والقصيرة جداً أيضاً, لأحمي تنكري ولكي لا أكشف القناع الحقيقي لي, تواريت خلف ظل أبطال قصصي, واحتميت بهم في العديد من لحظات القلق والحزن الخفي, الذي كان يجتاحني فجأة, وخلسة يفعل بي فعلته, حين يوصلني إلى حد البكاء الموجع والأسى القاتل الذي لا يأبه بأي شيء, وحين تخنقني جدران الغرفة التي توصد كل جدرانها عليّ, ليس فقط جدرانها الأربعة بل قل الستة, أبحث عن القناع الذي يحميني من ألا يكتشف أحدا ما دمعي, ألجأ لرصيف قلبي فيهديني قناعاً, وجدت ضالتي حين اهتديت لشخوص قصصي القصيرة, تنكرت خلفهم، بل ذهبت إلى أبعد من هذا كثيراً, حين تنكرت خلف شخوص قصصي.
حاولت جاهداً ألا أصدّر أزماتي وقلقي وكوابيسي على شخصيات قصصي, لكنهم كانوا الملاذ الوحيد الآمن لتنكري, أنا لست متصالحاً مع نفسي, واعتذر من كل أبطال قصصي الذين قد أكون بقصد أو من غير قصد, أسقطت عليهم أقنعتي, وحملّتهم أوزاراً هم لم يقترفوها.
هذا أنا تنكرت خلف شخصيات قصصي, إنسان أراد بلا أقنعة, بلا تنكر أن يحجب عنه العيون, لكنني وبعد كل هذا الملاذ الآمن خلف شخصيات قصصي, التي نسجت لها من هدب العيون أيقونة للذكرى, وصليباً للخلاص, لعلّي بيني وبيني كنت أستجير به, فقط لأحمي ذاك القناع الذي لم يكتشفه أحد بعد, ذاك القناع الذي هو مثل قارة أو محيط أو كوكب لم يكتشف بعد.
هذا أنا لي قناع واحد ووجه واحد لكني لست متصالحاً مع ذاتي.
وحده الندم يرافقني مثل ظلي بل أكثر.

أحمد عساف