ثقافة

أيمن الحسن في “مسك غزالة وقمر” حين يتقاسم المكان والشخصيات أدوار البطولة

منذ التّعريفات الأولى على لسان الرّواد، بأنّها وحدة الانطباع الذي تتركه لدى المتلقّي، أو قطعة من الخيال أو حكائيّة مشروطة بعدد محدود من الكلمات الخ.. والقصّة القصيرة تحاول تجديد لبوسها وتطعيم نسيجها بمعطيات الحداثة وما بعدها. نصوص مجموعتنا قيد القراءة /مسك غزالة وقمر/ الصّادرة عن اتحاد الكتاب العرب لعام 2016م للكاتب “أيمن الحسن” رغم وفائها للتّقاليد الكلاسيكيّة من حدث وعقدة وحلّ، ووحدة عضويّة إلا أنّها تنتمي إلى تلك المحاولات التّجديديّة، في تنويع التّعدّد الصّوتي،المدروس للضّمير السّارد. مستفيدة من التّقنيّات والحيل الأسلوبيّة لأجناس أدبية أخرى كالشّاعرية التي نتلمّسها منذ العنوان الرئيس وحتى آخر انجلاء لتفاصيل الحدث في لحظات التّنوير. والاعتماد على المقبوسات والموروث الأسطوريّ والغنائيّة والتّناصّات، لإغناء مضمونها الاجتماعي برسائل ثقافيّة عديدة تنتصر للقيم الإيجابيّة: (المواطنة والهويّة والتّعدديّة الفكريّة والكرامة الإنسانية)، حيث يتقاسم أدوار البطولة فيها، المكان إلى جانب الشّخصيّات الإنسانيّة.وقد تجلّى صدق الذّات المبدعة الفنّي واضحاً أثناء صياغتها للحدث ومثلنته في سلوك الشّخصيات،مؤكّداً مقولة  بارت: (الشّكل ليس حلية، ولا مجموعة قواعد، بل تشخيصاً لأحاسيس ملتصقة بتجاويف الذّات وبأعماق الموضوع).سأختار بعض النصوص،محاولاً الإحاطة بما أراده الكاتب من رسائل فنّيّة وثقافيةّ واجتماعيّة وهو كثير.

“لازورد، نشيد الحكايات الناهضة
ثمّة عنوانان، رئيسُ وفرعيٌّ يوضّحه. تمضي الصّيرورة الكونيّة لمسيرة الخلق، بلا انقطاع،مبشّرة بقدوم الجنين. لتتداخل أزمنة  السّرد على لسان ضمير المتكلّم:(عندما جاءني الأمر بالتّحرّك الفوري (…) كنتُ ودّعت زوجتي).عبر تقنيّةّ الخطف خلفاً لذكريات مستعادة في لحظة تكثيف للزّمن السّيكولوجي لحظة الاستشهاد، التي يكاد يختفي فيها الزمن الفيزيائي السّائر بالحدث نحو نهايته المتوقّعة بإشاراتٍ دالّة.حين يودع الشهيد عائلته موصياً زوجته بولديه: (أوصيك إن كبرا أن يكبر فيهما المبدأ) أو (اكتفيتُ بتلويحة وداع واكتفتْ بابتسامة ضياء) والملفت للانتباه، تلك القدريّة بأن يصاب البطل بعموده الفقري تماماً، كإصابة والده.

وظلّ في علبة الكرتون
في هذا النص يتقاطع ضمير المتكلّم الذّكر مع ضمير المؤنّث في توليفة سرديّة تحرّك مسار الحدث، لتوجيه رسالة ثقافيّة تحضّ على التّشبّث بالوطن والهويّة، عبر مونولوج يجري على لسان الصّحفيةّ “ثريّا” التي بقيت وحيدة بعد ترمّلها وهجرة ابنها وزواج ابنتها:/سورية أمّنتكم من خوف، أطعمتكم خبزها، نسماتها أنعشتْ رئاتكم، فكيف تغادرونها وهي في محنة عصيبة أين الوفاء يا أولاد؟/. كعادته سار الحدث رشيقاً، مصوّراً لحالة العشق القديمة بين صاحب محلّ الأحذية “أبو عثمان وثريّا”. ليبقى الحذاء في علبته، شاهقاً بغربةٍ لا تنتهي، على مدى شهر، ينتظر “سندريلّاه” التي لن تنتعله أبداً. وفجأة يصعّد الكاتب من دراميّة الحدث كاسراً لأفقِ تّوقّع القارئ، بقفلته الصّادمةً ،حيث ظهرت “ثريّا” على كرسيّ متحرّك وهي تقول بحرقة:/لابأس حضر حذاء سندريّلا، لكنّها الآن بلا قدمين/.

مسك غزالة وقمر
القصّة التي تسيّد عنوانها المجموعة ليهبها سطوة الحضور الكلّي، شكلاً، بقيتْ برغم “ثيمة” الشاّعريّة الواضحة فيها: /ورأى غزالة عند بابِ مسائه، يبرق نور أخّاذ من عينيها، تطرّزُ وشاح العتمة بسمتها، تُبدي له تلفّتها حين تمرّ أمام بيته الطّيني، نهدان ثائران في صدرها، بدتْ مثل قطرة ندى تترقرق/قاصرة على صعيد المضمون، إذا ما قورنت بتعدّد الرؤى الثقافية الإيجابية للنصوص عموماً، التي تنتصر لقيم الأنوثة والتجدّد والانفتاح. فرغم كلّ ما حاول الكاتب سوقه من تبريرات للحدث: من بيئة استبداديّة ذكوريّة تأخذ شرعيّتها من متعالٍ أسطوري “مارس” إله الحرب وإسقاطه الاجتماعي كأب ذكر عنيف ما يشجّع الطّرف الآخر الأنثى على اتخاذ الطرق الملتوية ومنها الخيانة، نافياً إيّاها عن الذكر الذي بقى شهماً متسامحاً، بينما الأنثى واسمها “غزالة” أيضاً، تخون ببساطة دون رادع ، يقول: /إلّا الخيانة فليست مقبولة على الإطلاق/.
يسير الحدث بشاعرية جميلة متوسّلاً المعلومة العلمية حول الغزال العاشق الذي يلجأ حين يضطّرم شوقه لحكّ كيس لذّته الموجود قرب سرّته بحجر لتسيل قطرات حبّه لأنثاه، كعطر. ثمّل يعمّق فحواه باحاطته بجوٍّ أسطوريّ، يتخلّله عواء الذئاب في ليلةٍ مقمرة بما يشبه قيم المجتمع الذكوري المستبدّ والموحش:/إنّ الذئاب لاتموت خلال المعارك الضارية بل تفقد أجسادها فحسب، لتحلّ في أجساد أو حيوانات أخرى/ثمّ يتابع منتصراً لقيم الذكورة الطّهرانيّة، بالقول:/ أيّ قدر للرجال أن تفوح رائحة عشقهم دوماً عن النّساء، ولماذا لاتظهر تلك الرّائحة على جسد المرأة كما المسك عند الظّبي؟/.

حدث غداً
اللّعب بالزّمن هو “ثيمة” هذا النّصّ الفارقة، المنتصر لقيم النّبالة الرّيفيّة: /ريفنا الحبيب مسكون بالمحبّة، أناسه الطّيبون مضرب أمثال في الكرم والمودّة الصّافية/ تنكسر فيه تراتبيّة الزّمن المألوفة منذ البداية، فالمستقبل هو حاضر السّرد، الذي يعلو فيه الحدث إلى ذروته مرتكزاً على آليّة الخطف خلفاً. منذ رؤية السّارد لليافطة المكتوب عليها اسم الدّكتورة المختصّة بطبّ الأطفال، والتي دسّتْ في يده يوم كان أستاذها قصاصةً بعنوان “حدث غدا” تروي فيها طموحها بأن تصبح طبيبة تفتح عيادتها في الرّيف لتسهّل على سكّانه الطّيبين معاناة إسعاف أطفالهم إلى المدينة، ثمّ يميل الحدث تدريجيّاً للتفكّك والانكشاف، باستئذانه من زوجته لرؤية طالبته النّجيبة وقد حققتْ طموحها ووفت بوعدها بفتح عيادتها في الرّيف.

أستار لعتمة الحرير
الحدث الدّائر في المستوى الحلمي يبدأ من عقدته أيضاً، متأزماً بلا مقدّمات. يقول السّارد بضمير المتكلّم: /بغتة إذا قيد يكبّلني، غلبني النعاس../ تتداخل الأزمنة بين مستويين فانتازي وواقعي، يجتمعان على إدانة  قيم الجشع والأنانيّة التي تشكّل إساراً رمزيّاً  يلغي حريّة الكائن، أشبه بقيد ماديّ تمارسه قوى الاستبداد تجاه ضحاياها. مشرعنة لمقولة “الغاية تبرر الوسيلة”. ثمّ فجأة يوقف الحدث تدفقّه الحلمي ليصبح واقعاً صادماً وقد اكتمل القيد الذّهبي، كاسراً حلقة المتخيّل والزمن الحاضر المتداخل بماضيه، يقول: /عندما صحوتُ، وجدتها على سريري الذي استحال مخدعاً حميماً/  هذه الأنثى المغرية ليست سوى ذاته الأنانية، تقول له: /سجيني أنت الآن (…) أنا أنتَ/. ليمضي الحدث مندغماً بأمنيات الشّخص الغريبة وقد التحمَ قيده بمعصميه. لوهلةٍ تستطيبُ الشّخصيّةُ  قيدها، لكنّ الحالم سرعان ما يصحو،على شرط الذاّت المتبرّجة وهي تهمس له: /إن نمتَ والقيد في يديك لن تستطيع التخلّص منه أبداً/ ويبدأ الصّراع النفسي من جديد، مكثفاً لزمنه السّيكولوجيّ، ليصرخ: /كيف ستأخذه ياسيدي (…) فكّني بثمنه، أيها الملك/ ثمّ تبدأ لحظة تفكّك الحدث بعودة الذاّت إلى رشدها وقد خلعت قناعها، فإذا بالقيد مجرّد وهمٍ يذوب أمام نظرتها الثاقبة، تقول: /صُدمتُ بوجهي يقابلني كأنّني أمام مرآة/.
أوس أحمد أسعد