عن الإعلام والمسرحّة و المتلقي
مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، لم يتغير تغيرا جذريا دور المتلقّي، فظل انفعاليا، ولكنه –أي الانفعال- اكتسب مزيّة مهمة وهي أنّه صار انفعالاً مكتوباً، وليس مجرد انفعال شفوي ومكتوم ومحصور، والانفعال المكتوب على صفحات التواصل الاجتماعي له مزايا، منها: اتساع مدى التأثير وقابلية التأثّر، واتساع ممكنات التأييد والمشاركة.
إضافة إلى قابليته للتحول إلى حالة “كمية” قابلة للقياس ولها مؤشرات رقمية، كعدد الإعجابات والمشاركات والتغريدات، مما يمكن أن يشير إلى حالة منتشرة أو عامة،
وهذا صار واقعا وانتهى الأمر، والحديث عن عالم آخر بدونه، هو من ضروب الوهم، إلا إن أخرجت الأرض أثقالها، ولم يعرف “غوغل” مالها.
هذه المزايا للتفاعل أو الانفعال الرقمي دفع دولا ودويلات إلى تجريم “الانفعالات الرقمية” التي تخالف ما تريده، وهذا نتاج تحولات في أدوار “الانفعالات” فرضتها وستفرض المزيد منها تحولات التواصل الإعلامي الرقمي، فهذه المواقع صارت من المواقع الإعلامية المؤثرة في المجتمعات، كما حدث ورأينا تأثيرها الكبير في مراحل سابقة. إلا أن هذه المنصات الإعلامية الجديدة، لم تعمل يوما على تقديم الصورة كما هي أو حسب حالتها القائمة في الواقع، بل هي دائما ما تقدم معلومات ناقصة ومتضاربة تشوش المتلقي، بحيث يصبح الواقع والوهم إناءان متداخل ماءهما، وعن هذا الدور الإعلامي الخطير الذي دخل على حياتنا وانتهى الأمر، يمكن توضيح هذا التأثير الإعلامي الذي تحمله تلك المواقع، بسبب نقص الصورة الكاملة للحدث الذي تجزئه وفق ما يراد الترويج له وزرعه في الذهنية العامة، بينما الواقع شيء مختلف تماما، وقد يكون مختلفا لدرجة لا تصدق، كالفرق بين الحياة والموت، ولكن اللعبة تكمن في التشكيك بكون كل ما هو صحيح بأنه غير صحيح والعكس بالعكس، هذا الحال يمكن توضيحه بالمثال التالي:
تقوم نظرية “الإيهام بالواقع” أو “كسر الجدار الرابع” في المسرح على إيهام المتفرِج أنه يشاهد “واقعا حقيقيا” يتفاعل معه، ويؤثر فيه. لن نتحدث عن هذه النظرية المسرحية التي اشتغل عليها المسرحي الألماني “بريخت” ولن نقاربها مقاربةً للواقع الحقيقي الذي يرى العالم مسرحا كما جاء في جملة “شكسبير” الشهيرة في “ماكبث”: “ما الحياة الا ظل يمشى أو ممثل أخرق يهذر ويعبس خلال ساعته على المسرح ثم لا يسمعه أحد، إنها حكاية يرويها معتوه ملؤها الصخب والعنف ولا تعني شيئاً”، لكن يمكن مقاربة الأمر بنظرة معكوسة يمكن تسميتها “الإيقاع بالمسرحة” ولتتوضح هذه المقاربة هاكم مثالين:
لو كنا نشاهد مسرحية يقوم أحد الممثّلين في الفصل الأخير من فصولها بقتل ممثّل آخر برصاصة فسيكون نجاح الممثّلين بقدر نجاحهم بإيهامنا أن القتل المسرحي غير الحقيقي، هو قتل حقيقي يثير في نفوس المتفرجين مشاعر الخوف والغضب والحزن الحقيقية. لكن في المقابل لو تخيلنا أن الممثّل القاتل في “المسرحية” قرر قتل الممثّل المقتول قتلا حقيقيّا، وعوض مسدس الصوت استعمل مسدسا حقيقيا، فأطلق الرصاص الحي على زميله الممثّل الذي لا يعلم نية القاتل وفعله، وبدلا من الدماء الكاذبة المكونة من ماء مصبوغ، سال دم حقيقي من الممثّل المقتول المخدوع، وأمام الجمهور المتأثّر المتفاعل، وقف القاتل وجثّة زميله المقتول مضرجة بدمائها مقابل الجمهور يتلقيان التحية والتصفيق الحاد لشدة اتقانهما الدور الذي يفترض أنّه مشهد مسرحي متقن.
تُسدل الستارة، ويخرج الجمهور مُعجباً بمشهد القتل وهو لا يعلم أنه كان شاهدا متفرّجا على عمليّة قتل حقيقيّة!.
الحالة الأولى تمثّل مفهوم “الإيهام بالواقع” فالجمهور يعلم أن ما يراه “مسرحّة” ولكنّه يتوهم أنه واقع، لشدة الإتقان في الإخراج والتمثيل والمؤثرات المرافقة.
أمّا الحالة الثانية فتمثّل مفهوم “الإيهام بالمسرحة” فالجمهور يرى عمليّة قتل حقيقية واقعية، ولكنه يظنها “مسرحية” لذلك ينشغل بتقويم الحدث بوصفه حدثاً مسرحياً، فيناقش الإخراج والتمثيل، غافلاً عن جريمة قتل حقيقية جرت أمام عينيه!
حين تسيطر على المتلقّي للأحداث في الإعلام فكرة “المسرحة والمسرحية” ينتقل من التفاعل مع الأحداث رفضاً وقبولاً ومواجهة واستثماراً، إلى تحليل الأبعاد المسرحية في الحدث، ومحاولة إثبات “مسرحيتها”، مما يمكّن صناع الأحداث في العالم من صناعة الأحداث الواقعية وتمريرها معتمدين على أن “المتلقّي” المسكون “بمسرحة العالم والواقع” سيكتفي بـ”تحليل ما يراه” لا بـ”التداخل فيه ومعه، وساهم في تكريس هذا “الوهم” و”الإيهام” كثافة الرسائل الإعلامية المنقوصة نقصاً يجعلها قابلة للتأويلات، وإحلال التداخل والتفاعل الافتراضي الذي توفره منصات “التواصل الاجتماعي” محلّ التداخل الواقعي، هذه التأويلات التي تبقى مفتوحة بدورها على عدة احتمالات، تجعل الكذب والصدق عملة واحدة، فما من رقيب والجميع يدلي بدلوه فيما يعلم ولا يعلم.
ولكن تظل عمليّة “التواصل الإعلامي” أعقد وأكثر تفلتا من حسابات “منشئ الرسالة” فـ “المتلقّين” لهم دور مهم، يُمكّنهم من تحويل “التفاعل الافتراضي” إلى “تفاعل واقعي”، لذلك يصبح تحدي وسائل الإعلام والجهات المتحكمة بها ليس محصوراً في السيطرة على “صناعة الأخبار والأحداث”، بل لا بد من السيطرة على طرق فهم الأخبار والأحداث، أي التحكم بـ”المتلقّي” نفسه قبل الرسالة، وهنا يأتي دور “الإيهام بالمسرحة” بوصفه طريقة من هذه الطرق.
اليوم ما من منتج غربي متوفر مجانا بيد العرب أو غيرهم من شعوب وبلدان العالم الثالث، إلا وله وظيفته الدقيقة المصنوع لأجلها ولتحقيق غايته منها، وليست صناعة الرأي العام إلا واحدة من غايات كثيرة تأتينا تباعا بين الحين والآخر، لكن الأخطر، هو تلقين المتلقي ودون أن يشعر كيف يفهم ما يراد له أن يفهمه، ويبدو أننا – كعرب- كما تبدي وقائع السنوات الأخيرة، وقعنا في مطب استهلاك مالم نساهم في صناعته من الأساس، فصار من الطبيعي أن يتحكم بنا هذا المنتج وفي طريقة تفكيرنا وبماذا يريدنا أن نفكر، هو ومن وراءه من امبراطوريات مافيوية، تضع يدها على العالم كما لو أنها تقبض على تفاحة بين راحة اليد وأصابعها، عدا قلة قليلة، لاتزال حتى اللحظة، تقاوم بريف عينها كل هذه المخارز!.
تمّام علي بركات