ثقافة

جلجامش.. بـيـن جارودي وأدونيس

ما زالت ملحمة جلجامش تثير اهتمام الأدباء والمثقفين والفنانين وتحوَّلت إلى مُلهمٍ لهم في إنجاز أعمالٍ إبداعيةٍ كثيرة، وظلَّ هذا النص الأدبي الذي تعامل معه العالم بوصفه أصلاً أدبياً أسبق بكثير من الملاحم والأساطير التي أنتجتها بلدان الشرق القديم، لذا يمكن التعامل مع هذه الملحمة بوصفها أول نصٍّ في بلاد الرافدين، وقدَّم أسئلةً حياتيةً وكونية انشغل بها الإنسان القديم، ومثلما قال المفكر المعروف “جارودي”: إن الأسئلة الكبرى التي واجهت الإنسان في بلاد الرافدين قدمتها ملحمة جلجامش الشهيرة والمعروفة لنا نحن الغرب والأسئلة الجوهرية حول الحياة والموت وصلت لنا من الشرق الذي لولاه لما كان الغرب موجوداً، وعلينا الاعتراف بأن حضارتنا جاءت إلينا من آسيا وأفريقيا، والمقصود بآسيا هي بلاد الشرق الأدنى القديم، وأفريقيا هي مصر ومجاوراتها الأساسية.

ويبلغ الاهتمام الغربي بملحمة جلجامش حداً كبيراً من الدراسة والبحث والاستثمار، وتشير الوثائق التاريخية في متحف اللوفر في باريس، بأن عدد البحوث والدراسات الرصينة بلغت في عام 1975، 275 بحثاً ودراسةً، ولذلك أريد الإشارة إلى أهمية هذه الوثيقة وجديتها ومجالاتها الثقافية والفكرية التي انتبه لها الإنسان الآخر بوقتٍ متأخر، ولكن الآخر لا يريد الاعتراف بالشرق بوصفه رائداً حيث نجده قد قدَّم قراءةً لأصوله الفكرية والأدبية وفيها شيءٌ من التضليل والتكتّم، ومثل هذا كثير وخصوصاً في ملحمة جلجامش، حيث كثيراً ما أكّد على موضوع الملحمة ألا وهو ثنائية الحياة والموت، وهي ثنائيةٌ تقليدية عرفها الكثير من الشعوب والقبائل، وتعدُّ هذه الثنائية أو الدروس التي نقلها الإنسان في بداية حياته، وتمحور الملحمة لم يكن كذلك، وإنما كان حول صراع الأنظمة الثقافية الدينية في العراق القديم، وشاع الخطأ الذي انتشر في دراساتٍ عربيةٍ وعراقية مع شديد الأسف، ويبدو أن الاهتمام بالملحمة في الغرب وترجمتها على نطاقٍ واسع، تعبيرٌ واضحٌ عن اعتراف الآخر بأهمية الحضارة الشرقية/العراقية وبالإمكان التعاطي معها باعتبارها مفتاحاً مركزياً مع نصوص الملاحم والأساطير بفهم ووعي كان عليه الإنسان العراقي والتطور الذي وصل إليه في وقتٍ كان فيه الغرب غير موجود.

وما لفت انتباهي مؤخراً قراءة للمفكر “جارودي” والشاعر العربي “أدونيس” للملحمة، وقد قدَّم لنا جارودي آراء مهمة في المجال الفكري واعتبر الملحمة بؤرة الفكر في العالم، وهي النص الأول المتضمن أسئلةً جوهريةً ما زالت تشغل الإنسان حتى هذه اللحظة، ومما قاله جارودي: (إذا رفضنا اعتبار الغرب ماهيةً جغرافية ونظرنا إليه بوصفه حالةً فكرية متجهةً نحو السيطرة على الطبيعة والناس، وجدنا أن مثل هذه النظرة إلى العالم ترقى إلى الحضارة الأولى المعروفة، تلك الحضارة التي ظهرت في دلتا دجلة والفرات، وهي عراق اليوم…)

إن مولد حضارتنا المتميزة بإرادة السيطرة والنفوذ، تجد تعبيرها الأدبي في ملحمة جلجامش، وقد سبقت “الألياذه” بألف وخمسمائة سنة، وهناك ارتفع الستار عن أول فصلٍ من تاريخنا.

وهذه الملحمة الأولى تجري في (أور) و(أورك) وقد سيطر الإنسان على الطبيعة وقاتل أقرانه، وسعى إلى اقتحام حدوده الخاصة ومجابهة الآلهة وتحدي الموت، وتوصل جارودي إلى أن ملحمة جلجامش كشفت عن الصراع بين البداوة والحضر، لكن المواجهة تحوّلت لاحقاً إلى صداقةٍ بين جلجامش وأنكيدو، مثلما أشار إلى أن الملحمة أضاءت لآفاق الطبيعة التي عاشها الملك، والتي دفعت به إلى المخاطر ومواجهة الشّر في أكثر من مكان، لقد كان ذلك قبل أربعة آلاف سنة سبقت يسوع المسيح، وقد وُلِدَ (فاوست) لاحقاً، هذا ما قاله جارودي في تأسيسات الملحمة التي هي أصل الثقافة العربية التي كان أول ازدهارها ماثلاً في الفلسفة الإغريقية التي ولدت في آسيا الصغرى قبل سقراط حملت الطابع الآسيوي.

لا يمكن أن نتعامل مع ما وقع به شاعرنا ومفكرنا “أدونيس” سهواً، إنه خطأ كبير، وهل سهلٌ عليه أن يقع في مثل هذا الإشكال، وهو معروفٌ بثقافته الموسوعية وتنوعاتها الكثيرة، وأعتقد أن ما وقع فيه كل من جارودي وأدونيس خطأ جوهري وهو يمثل أنموذجاً لهفوة الأستاذ، لا بل سقطته، وأظن بأنه ناجمٌ عن الخوف من جلجامش الشرق.

قدم جارودي قراءةً عاليةً جداً للعلاقة بين الغرب والشرق، كيف كان الشرق درساً مهماً في ثقافة وتكونات الغرب، حتى الفلسفية ( وإن ما اصطلح الباحثون على تسميته باسم الغرب إنما وُلِدَ في ما بين النهرين، وفي مصر، أي في آسيا وأفريقيا.. وثمة ينبوعٌ آخر لحضارتنا نجد جذوره تتزاوج في فينيقيا وكريت ومصر).

لقد كان الفلاسفة والمؤرخون اليونان يعجبون بمصر إعجاباً عظيماً وخاصةً ما ذكره أفلاطون عنها.  ورغم خطأ الشاعر أدونيس في تحليله لأحداث الملحمة فقد وقع في شرك سرعة القراءة لها، أو لجأ إلى الاجتزاء منها وهذا ما أوقعه بهذه الإشكالية التي وقع فيها العديد من الشعراء والأدباء العرب في تعاطيهم مع الأساطير العراقية أو حواراتهم عنها.

لكن جارودي المطلع على ثقافة وتراث الشرق بشكل ممتاز جعل من الخطأ الذي وقع فيه صارخاً، لأنه لا يعرف المدينة التي وقعت فيها أحداث الملحمة وهو غير متأكدٍ منها، لذا جعلها (أور و أروك) والأكثر إثارةً إشكالية الخلط بين جلجامش وآشور بانيبال، ذكر جلجامش وقدم له تعريفاً صحيحاً، لكنه في مكانٍ آخر قال بأن الملحمة كتبت عن الملك آشور بانيبال، بينما هي اكتشفت في مكتبته؟.

د. رحيم هادي الشمخي