جورج عشي.. النور بثلاثة أبعاد
حضر جورج عشي ملتقى الفن التشكيلي مكَرِماً كل من حضر لا مكرَماً وقد اكتفى بقول كلمات قليلة لأن كل ما أراد قوله قالها عبر الصورة الفوتوغرافية التي أبدع في تقديمها، وعبر حروف الشعر الذي كتبه بروحه قبل قلمه، وعبر ألحان الموسيقا التي نهل من معينها وهو أحد الأعضاء المؤسسين للفرقة السيمفونية الوطنية عام 1960 مبيناً أن أية إضافة له قد تقلل من قيمة ما قدمه طالباً التحليل من قبل أصحاب الاختصاص في الملتقى ولكن دون مدحه لأن دمعته صارت سخية.
في حين أكد المشرف على الملتقى الفنان أكسم طلاع أن تكريم الفنان جورج عشي هو تكريم لكل فنان حقيقي، ولذلك ارتأى الملتقى تكريمه بدورته السادسة بمشاركة الفنان والناقد غازي عانا ومدير إذاعة دمشق عماد الدين إبراهيم وعدد كبير من الفنانين والمهتمين بإقامة معرض وعقد ندوة له، وهو المصور والتشكيلي والشاعر والموسيقي السبعيني الذي ما زال ينتج فناً راقياً من روحه ومحبته وانسجامه مع نفسه، وأشار طلاع إلى خصوصية تجربة عشي في مجال فن البورتريه الذي برع فيه بعيداً عن نزعات العبث، وعن قدرته الكبيرة في التصوير الضوئي حينما نقل الصورة من الفوتوغراف إلى حيز القيمة الفنية، وأكد أن الزمن سينصف هذا الفنان الذي أثبت حضوراً خاصاً في الساحة الفنية والثقافية.
بعيداً عما هو مألوف
وتحدث الفنان والناقد غازي عانا عن أعمال عشي التي ما زال ينجزها بغواية وهواية وعلاقة حب بتنوع فضاءاته وأشكال تعبيره، بالإضافة لهامش الحرية الذي يجول فيه بصياغات ومفاهيم وصل إليها بالتجريب الذي ما زال هاجسه اليوم محاولاً إيجاد المعادل الطبيعي بين قناعاته ومعارفه وبين هوايته وما هو ممكن في عالم اللوحة الذي بات رغم اتساعه أضيق مما نتوقع، مشيراً إلى أن التشخيص احتل مساحة كبيرة من تجربته فكان البورتريه العنوان الأول لمعرض قدمه في صالة الشعب للفنون، وما زال إلى اليوم من الموضوعات التي تشغله لخصوصيتها بالنسبة إليه معتمداً فيه على الواقع وما بقي في الذاكرة من هيئة أشخاص يستحضرهم بلباسهم وهيئاتهم، بعد أن يحملهم مشاعره لتبدو حقيقية أكثر من الحقيقة وبألوان أكثر انطباعية يعكس بعضها مزاج عشي في لحظة الرسم، بعكس موضوع المنظر الذي يرسمه فغالباً ما يسود فيه تفاهم أكثر من حيث تنقلات تلك الألوان التي يذهب بها عشي برأي عانا بعيداً عما هو مألوف، ليحلق في فلك التجريب الحداثوي فيبتكر انطباعية خاصة به تشبه الفانتازيا البصرية، وبيّن أن عشي في لوحات الطبيعة ينحاز إلى المكان الذي مازال يحتل الأولوية في الذاكرة الحاضرة إلى “ضهر صفرا” قريته الجميلة القابعة قبالة البحر والتي شهدت بزوغ مواهبه المتنوعة التي نماها بالاجتهاد ورعاية الأهل، والبداية بموهبة التصوير الفوتوغرافي حيث كانت كاميرته لا تفارقه في كل مشاويره، كما كان يرسم ويكتب الشعر ويعزف على آلة الكمان، وأكد عانا أن عشي لم يفكر ولا مرة بالاحتراف أو التفرغ لواحدة من تلك الحالات المبدعة، ليبقى الهاوي لها جميعاً يمارس كل واحدة منها في الوقت الذي يكون فيه مزاجه رائقاً وفكره متوقداً، بعد أن ينتقي من المشهد ما هو أقرب إلى الحلم فيه ومتحرراً من كل القواعد والنظم الأكاديمية الصارمة.
عين ساحرة وذهن متقد
وفي كلمة المصور الفوتوغرافي المحامي أنطون مزاوي والتي ألقيت على الحضور لتعذر مجيئه، رأى أن عشي فنان متمكن من أدواته الفنية ومالك لوسائله التعبيرية على نحو غدت معه العناصر المكونة لأعماله مجموعة من الدلالات القادرة على تأدية المعنى بمفردات تصوغ نصوصاً بصرية راقية وهادفة عبر عين عشي الساحرة، وذهنه المتقد والذي استطاع خلق صيغ حوار راقية خاطب من خلاها فكر وثقافة المجتمع، بعد أن آمن بدور الفن في حياة الناس وقد تجلى ذلك برأي المزاوي في انجازاته ابتداءً من الصورة التعبيرية مروراً بالواقعية والجمالية، وصولاً إلى التوثيقية التي أضفى عليها عشي أبعاداً جمالية وإبداعية لذلك لم تكن تجربته مجرد توثيق، بل تعدته إلى إضفاء روح الفنان ومعاييره الفنية والجمالية في العديد من المناحي التي عمل بها في توثيق الفنون في المسرح والموسيقا والأدب والعمارة والنحت والتشكيل.
كما توقف المزاوي مطولاً عند فن البورتريه في تجربة عشي الفنية، وخاصة أمام ثلاثة منها والتي لا يمكن أن تفارق مخيلته لما تحمل من عناصر ودلالات وهي: البائع الأعمى التي نالت جائزة عالمية، ماسح الأحذية فائقة الدلالة، أم جورج الرائعة التي تعد من أهم روائعه برأي المزاوي، والتي استطاع بها عشي تجاوز معايير العين المدربة لدرجة أننا نشعر بأنه يقدم نصاً بصرياً يحمل طابع السرد لتكون إحدى روائع الفن الفوتوغرافي العالمي.
وعن أعماله وروائعه عن دمشق وخاصة المأخوذة بتقنيات الأبيض والأسود أكد المزاوي أنها تشهد بأنه الملك غير المتوج لهذا النوع من التصوير، وساعده في ذلك عين العشي الفريدة والقادرة على التعاطي مع الحالة بشكل يعد منفرداً في تحضير والتقاط وإخراج المشهد على نحو مختلف عن كل الأساليب والطرق التي تعاطى فيها فنانو الفوتوغراف مع هذه المدينة، باستغلال وتوظيف العناصر وبخاصة عنصر الظل..
وكمدير سينمائي عريق بين حنا ورد في كلمة له أرسلها للملتقى لسفره خارج القطر عشق عشي لدمشق القديمة، ولفن البورتريه وشغفه في تصوير القامات السورية الكبيرة، فكان أرشيف الثقافة السورية المعاصرة وهو أهم من صورها ووثقها بعدسة فنان محب لوطنه وحضارته.
يا فارس الأحلام يا شاعر
وحين تعود الذاكرة بعماد الدين إبراهيم مدير إذاعة دمشق يعود به الزمن إلى سبعينيات القرن الماضي حينما تعرف على عشي من خلال أغانيه التي انتشرت آنذاك، وقد مضت عقود أخرى حتى تعرف عليه شخصياً كشاعر ورسام ومصور من خلال وجودهما المشترك في لجنة تقييم النصوص الغنائية في إذاعة دمشق فكان ناقداً فنياً صارماً في التقييم النقدي، لا يأخذ بالحسبان إلا النص معياراً والجمال مقياساً والإبداع هدفاً وغاية، ولم تزده السنون إلا جدية واهتماماً وتمسكاً بالجمال والإبداع فلا مكان لديه للتساهل أو المجاملة أو المسايرة، وهذه ميزة من مزاياه الكثيرة.
وكشاعر غنائي توقف عماد الدين إبراهيم عند شعره الغنائي المحكي حيث أصدر عشي مجموعتين شعريتين فقط منذ ما يقارب نصف قرن نهل فيهما من معين الطبيعة الغني والثر، والتي كانت حاضرة في شعره وقد استمد منها موضوعاته وتماهى شعوره وإحساسه مع مظاهرها، فشكلت قاموسه الشعري الذي بنى من خلاله أسلوبه الشعري الذي ميزه عن بقية الشعراء بمفردات سلسة وسهلة تصل للقارئ بكل بساطة ويسر:
من دارنا يا جارنا
خلي الدرب من دارنا
كرمال عينيك الخضر
منبيع كل نهارنا
وبيّن عماد الدين إبراهيم أنه وشيئاً فشيئاً أخذت الأغنيات الشاعر عشي من أجواء الشعر المحكي وما فيه من استرسال وتداعيات للمخيلة، ليقدم نصاً محكياً يقارب الفصيح جمالاً وإبداعا ودهشة، وهكذا اكتفى بجموعتيه “كلمتين صغار” عام 1963 و”الجوع والحب” عام 1970، متوجهاً إلى نظم الأغنيات التي ترنم بها الكثيرون بألحان العديد من الملحنين الكبار في مقدمتهم الراحل ملحم بركات وسيد مكاوي، وأشار عماد الدين إبراهيم إلى أن الشعر المحكي خسر الشاعر عشي حين ركز اهتمامه بالنص الغنائي وهجر الشعر، لأن للنص الغنائي قالباً معروفاً ومحدداً يحد من حرية الكاتب في الاسترسال والتعبير ليمر الشعر في تجربته كالحلم وقد وصف عشي مجموعتيه بأنهما من نتاج مرحلة الشباب والولدنة:
متل الحلم مريت بالخاطر
يا فارس الأحلام يا شاعر
وعلى هامش الملتقى صرح الفنان أنور الرحبي أن عشي بفن البورتريه كان صديقاً للوجه السوري وكان شاعر الألفة والحب، وكمصور هو أحد أهم المصورين وهو بحد ذاته قيمة في مساحة الفن التشكيلي والمطلوب وضعها في مكانها الصحيح في ظل تواضع النقد التشكيلي الذي لم يبحث عن بعض القيم كعشي، وفي ظل سيطرة النقد الصحفي المليء بالأفكار والبعيد عن خصوصية القيمة المجهرية للنقد التشكيلي.
أمينة عباس