وليد إخلاصي بين تنوع الأجناس الأدبية والحداثة والتجريب
من الواضح أن اختيار العنوان العريض لملتقى السرديات من قبل د.عاطف البطرس (وليد إخلاصي..الوحدة في التنوع) كان مدروساً بعناية، فتجربة الأديب إخلاصي التي امتدت قرابة نصف قرن مزجت بين الأجناس الأدبية، وسبرت أغوار الإنسان الذي يعيش في القاع ويواجه أشكالاً مختلفة من عوالم الفساد والانحلال، ومضت بأسلوب التجديد والتجريب. وقد طغى على هذا الملتقى طابع الارتجال السردي التحليلي لمواقف وطنية جسدها في أجناس تجربته الغنية، وأُغني الملتقى بطرح مداخلات حول مفهوم الهاجس وعقدة السجان والجلاد والتفاوت الطبقي وازدواجية النهاية التي وصفها د. البطرس بالإبداعية. كما أثيرت فكرة تقارب إخلاصي مع الجمهور من خلال نقل عدد من مسرحياته إلى خشبات المسارح، وتحويل بعض أعماله الروائية والقصصية إلى أعمال درامية، لنتوقف عند مشروع لم يكتمل وهو سيناريو لفيلم ثلاثي كتبه الأديب مالك صقور لرواية (بيت الخلد) ولم تتم الموافقة عليه سابقاً، فهل يرى النور الآن؟.
الموضوع يختار شكله
جمعت مشاركة الأديب مالك صقور التي حملت عنوان: “وليد إخلاصي إنساناً وأديباً” بين القراءات النقدية والتحليلية والحميمية لاسيما أن صداقته معه امتدت لأكثر من أربعين عاماً، فوصفه بالأديب المتجدد وهو المهندس الزراعي، الذي قال له ذات يوم: “دراستي للزراعة علمتني كيمياء وفيزياء الحياة، ومن علاقتي بالزراعة وشغلي بالأقطان تعلمت علاقتي مع الإنسان”، ثم عاد بذاكرته إلى تاريخ إخلاصي منذ أن أصدر مجموعته القصصية الأولى (قصص) الصادرة في بيروت عن مجلة شعر عام 1963، وكان مجدداً مستلهماً التراث العربي مطلعاً على الآداب الأجنبية اتسم بالغرابة الشفافة والأحاسيس الطفولية والأحلام الضاحكة تتدفق مفرداته بغنائية شعرية، وفي عام 1964 صدرت روايته (شتاء البحر اليابس) التي قدم لها العجيلي، وقال عنها البستاني: إن هذه الرواية تؤرخ في الأدب العربي لبداية الرواية الحديثة التي لم يعرفها العالم العربي. لينطلق صقور إلى مقولة (الموضوع يختار شكله) لهذا نوّع إخلاصي في كتاباته وفق الموضوع فإذا كان يناسب المسرحية جاء بمسرحية، أو القصة القصيرة أو القصة الطويلة مثل (موت الحلزون) إضافة إلى الدراسات الهامة (المتعة الأخيرة والصورة الناقصة في المسرح، ومن الإسكندرونة إلى الإسكندرية) إلى جانب مئات الزوايا الصحفية.
ويتوقف صقور عند رواية (باب الجمر) التي مزج فيها بين الواقع والحكاية، فصوّر عالمي البؤس والتخمة، عالمي الخبثاء والطيبين فرسم القصر والكوخ وعرّى التجار والسماسرة، كان يبحث عن القيم الأخلاقية ومحاربة الجشع والشر، ليتابع قراءاته عن رواية (دار المتعة) التي تعد من أهم الروايات ضمن إبداعات إخلاصي وعلى صعيد الرواية العربية، فدار المتعة في النهاية هي الحياة بذاتها، أما (أحزان الرماد) فصوّرت جانباً من إحباط الشباب مشيراً إلى الفساد ومقاومته.
ثم تحدث صقور عن (ملحمة القتل الصغرى) التي شكّلت ملمحاً هاماً على صعيد الشكل والمضمون إذ يكشف فيها إخلاصي عن الغرائز الكامنة في النفس البشرية وأهمها غريزة القتل، ليعقب صقور بأنها كانت برأيه جرس إنذار للتراجيديا السورية التي رسمت علامات الخراب القادم وما يجري في حلب خير دليل على ذلك، ويدخل صقور في تفاصيل تجربة إخلاصي بالقصة القصيرة من خلال تتابع ثلاث عشرة مجموعة قصصية عبّرت جميعها عن الهم الوطني والواقع الاجتماعي فكان الإنسان هدفه وغايته.
وانتقل صقور إلى عوالم المسرحية في تجربة إخلاصي إذ كتب أربعين مسرحية، وقد لاقت مسرحيته( كيف تصعد دون أن تقع) التي قدمها مسرح الشعب في حلب عام 1973نجاحاً كبيراً، وهي كوميديا سوداء يرصد فيها إخلاصي واقع الفساد، ليتوجه إلى جمهوره في نهاية المسرحية ليقاوم النفاق بالسلاح بالعصي بالأظفار بالأسنان.
وصنف مسرحية الصراط بأنها نوع من التراجيكوميديا كما قال عنها الناقد د. علي الراعي هي صرخة ألم تنبعث من نفس حساسة وضمير حي ضد باطل يعبده الناس وهو لايستحق إلا الملول. لينتقل إلى عوالم أكثر حميمية وذاتية إلى صفحات كتابه (من الإسكندرونة إلى الإسكندرية) الذي تضمن محطات حياته وأقاصيصه ورواياته ومسرحياته، أما القلعة الأثرية المشهورة فكانت المعشوقة أبداً، ليخلص صقور إلى أنه كان العاشق الصوفي الذي يصلي في محرابها، والذي خلق شخصيات متنوعة متعددة متناقضة بسيطة ومعقدة.
لذة الكتابة
وبدأ د. عاطف البطرس مشاركته “التنوع في تكوين وإبداع وليد إخلاصي” بالحديث عن وليد الإنسان المميز بلطفه وتواضعه وعذوبته المنبعثة من ثقافته وطريقته بالتفكير وليبراليته، ليصل إلى أن إخلاصي قبل أن يكون روائياً كان مفكراً، والعلاقة بين المفكر والروائي والمؤرخ علاقة عضوية من الصعب الفصل فيما بينها، ليطرح سؤالاً هاماً بالنقد، فيما إذا كان تعدد الأجناس الأدبية يضعف النتاج الإبداعي؟ فلو ركز إخلاصي على جنس أدبي واحد أعطى نصاً أمتن شكلاً وأكثر تطوراً؟ وهذا السؤال لايستطيع الإجابة عنه إلا من مارس لذة الكتابة. فتعدد الأجناس عند إخلاصي تستدعي دراسة نظرية لها جانب تطبيقي، وأن هذه الأجناس تتقارب بتقارب موضوعاتها ويقود ذلك إلى تعدد الشخصيات وتعدد الأمكنة، وتعدد الأحداث مما يؤدي إلى الوقوع بمطب التكرار.
وتطرق د. البطرس إلى الحداثة التي جناحاها الديمقراطية والعقلانية، ليتساءل هل الحداثة بنت شرعية لهذه المجتمعات أم أنها استنساخ لسياقات أخرى نقلت ذهنيات من مجتمعات أخرى. ثم انتقل إلى التجريب عند إخلاصي الذي لايستقر على شكل واحد وهذا واضح من تعدد الأشكال الأدبية وتعدد ثقافاته، وهذا يعكس حالة الغنى المعرفي ونتاجه الإبداعي الملون، ليخلص إلى أن إخلاصي بكل أعماله كان مقروناً بفكرة التجريب لكن تجريبه لم يكن تجريباً ذهنياً متعالياً على واقعه، بل تميزت واقعيته بنكهة وجودية وفرويدية ومادية وجدلية أيضاً، وهذا يدل على التنوع المعرفي في عدم استقراره على جنس واحد، فكان يحاول أن يطور ويغير بأدواته.
زهرة الصندل
وتغيرت وتيرة السرد الارتجالي حينما مضى د. البطرس لتحليل رواية زهرة الصندل عام 1981كأنموذج تطبيقي تقدم بتكثيف شديد تجربة سورية في مواجهة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، تجسد شخصية وهوب بتكثيف دلالي للوطن بشكل عام، وهو يدعو إلى وحدة النسيج الاجتماعي، ليعقب البطرس بأننا الآن في أمس الحاجة إلى ما دعت إليه الرواية وما عملت عليه وهو المصالحة، التي تحتاج إلى شجاعة وعقلانية وتضحية، فنحن ولدنا لنحيا لا لنموت، فزهرة الصندل عاشت أجيالها في حي لاتوجد فيه قطعة سلاح.
وتوصل د. البطرس إلى نتيجة هي عدم خروج وليد إخلاصي في مجمل أعماله من حلب كما فعل نجيب محفوظ في عدم خروجه من الحارة المصرية.
وتحدث الناقد أحمد هلال عن مسألة تعدد مرجعيات إخلاصي التي فرضت تعدد الأجناس الأدبية في تجربته، متسائلاً عن مساحة الحضور النقدي في زواياه ومسرحياته في وجه سياقات اجتماعية معينة، وتطرق إلى رواية رحلة السفرجل التي وصفها بالحكاية ليطرح سؤالاً عن العلاقة بين الرواية والحكاية.
وتساءل الناقد ملهم الصالح عن مفهوم هاجس الحرية وهاجس الموت لدى إخلاصي، وعن المزج بين الحكاية والواقع، وبين ذاتية الأديب والواقع.
ملده شويكاني