ثقافة

مديح الصورة المشوّشة

يبدو أن أقل ما يمكن توقعه من سينمائي هو أن يقدّم للمشاهد أوضح الصور الممكنة، لا لبس فيها ونظيفة ومطمئنة من خلال نوعيتها وتسلسل سياقها، لكن هل نحن على يقين أن مقاربة كهذه تعكس بأمانة حقيقة الواقع؟ إن ما في السينما, من سينما, هو ما يأتي خارج الفن الدرامي وتشغيل الآلات، أي ما يباغت وما هو ملتبس وغامض. إنه مجاهل منطقة الصورة, وما تلتقطه عن طرق الخطأ، وهو ما  لا يأتي في المستوى الأول ولا في الثاني, بل أبعد من ذلك، مثل الأعماق والسماوات والصورة العفوية والطبيعة والفراغ. هذه المادة السوداء, العصيّة على الحس, التي تغلّف الناحية المزعجة في الأفلام, وكيانها العميق وكثافتها. إنه ذاك “الوشاح الكبير من الضباب الأحمر” الذي يجعلنا نرى بالقلب ما تعصى رؤيته على العيون، إلا أن الصورة المشوّشة تبقى أحد أكثر المحرّمات قوة في السينما.

عملياً, إنّها نموذج الخطأ المهنيّ الفادح. إنّها المشهد الذي يجب إعادة تصويره, ويُكلّف الإنتاج كثيراً ويُنكّد عيش الممثلين. إنها على الأخص المشهد الذي ينفي العصمة عن الأخطاء التقنية التي تدعيها المهنة، فتصوير مشاهد مشوشة يعني إظهار الضعف والهشاشة، والصورة المشوشة في السينما هي بمثابة الردّة في الدين, أي إن القبول بها يعني نكران كل شيء.

المشوش في الصورة هو غير النقي. هو أيضا العيب الذي يجب حذفه من السيناريو عبر تطبيق صارم لمبدأ السببية. وقد سبق لجورج فيدو في زمانه أن جعل من هذه القاعدة محركاً بحد ذاته حتى للفن الفكاهي في مسرحياته، ففي هوليود, ليس المطلوب هو الَإضحاك, بل أن يفتح المقطع المشهدي دائما على فهم المقطع التالي, ويوضح المقطع السابق. يجب ألا يكون هناك أي شيء غامض, وان يكون لكل شيء تفسير, وأن يكون السيناريو ناجزاً، فبعض السينما- الأمريكية أكثر من غيرها- تنقل رسالة واحدة, سياسية في الأساس في اتجاه جمهور يفترض أنه جاهل وغبي: لا تخافوا كل شيء ممسوك, نحن ملمّون بالأمور. فالذين يكتبون يعرفون, والذين يموّلون يعرفون, وفي أكثر المغامرات عصفاً, وأكثر القضايا الإجرامية هولاً, وفي الحرب الأشد شراسة, يبدو كل شيء واضحاً وله تفسيره, وفي حين أن الحياة ليست سوى حالات من الرّيب والشك والقلق, لا يظهر أيّ ظل لكل ذلك على الشاشة. إذ أن المشاهد يدفع ثمن تذكرته لكي يخرج مطمئناً. وبذلك تلعب السينما وظيفة الدواء المسكّن ووسيلة رائعة بكل معنى الكلمة للتحكم بالجماهير. النقاء التقني يطرح نفسه ضمانة أخلاقية لنقاء الأعمال الفنية، خاصة أن السينما كانت قد نشأت في المقاهي والأكواخ الرحالة, وشعرت منذ بدايتها بالحاجة إلى التطهر، ولذلك بدا الغامض قذرا وغير شرعي ولقيطا, لكن التمام نظيف وأكثر من ذلك انه نظيف نظامي, كما يقول السويسريون.

تعرف الصورة الواضحة كيف تتصرف في المجتمع. لا تنظّف قدميها على سجادة المخيّلة.

الصورة الكاملة لا تلامس, وأحيانا عن موهبة, سوى سطح الأشياء, وتمر في جوار الكائنات من دون السعي إلى التعرف إليها. إنها التذويق من دون عاطفة. وبمزيد من الدقة عاطفتها هي التي تختفي وراء صفاتها. وبمعنى مزدوج للعبارة, تحديد الصورة صفاء “الوجوه والملابس والديكورات”, ويبقى في الوقت نفسه المشاهد في حالة احترام, وهذا الخيار, خيار الوهم الاحتيالي, يساعد على فرض النظام في الأجواء: ” فالتركيز” مُربح.. وعلى كل حال, عندما يكون هناك ثلاثة ممثلين في المشهد ويتردد مشغُل الكاميرا في تفضيل أحدهم, يعمل الأمريكيون وفق صيغة تصلح في كل أستوديوهات العالم: “ركّز على المال”, أي إعطاء الأهمية للممثل الذي يجلب أكبر قدر من المال. إلا أن السينمائيين يحسون أن لا شيء  “كاملاً” في العالم, والتركيز على نقطة دون غيرها ليس إلا مجانسة لفظية  لـ “عملية إدهاش مزيف”. التلفاز أيضاً يعطي الأفضلية للنقاوة. لكن التلفاز لا يلعب تماماً دور السينما نفسه، إلا أنه لا يجهل كلياً الصور المشوشة.

بل هناك تحديداً صوراً يتم تشويشها عمداً, أي التي جُعلت جزئياً مبهمة على المشاهد باسم السرية وحسن الأخلاق وحماية القاصرين. فعملية التشويش ظهرت أولاً لستر مشاهد العري, ثم باتت تستعمل من أجل كشف ما لا يجب كشفه لكنه تم كشفه باسم الإعلام وحرية التعبير. في التلفاز كما في السينما ترفع الصور جداراً من الأوهام, وما وراءها يتم إخفاء معاناة البشر وعنف التاريخ. تصقل هذه الصور الحقيقة, ثم تنقيها وفي النهاية تمحوها. في عالم متخيل بات كل شيء صالحاً فيه, تصبح الأفلام مسالمة. ما كسبته الصورة في تحديدها، تخسره في العمق وفي كفاحيتها,على غرار تلك الوجوه التي تُعاد قولبتها بواسطة الجراحة التجميلية والتي لم تعد سوى ثقوب ظلال محفورة على شكل بشر. إن من الأهمية بمكان طرح سؤال القوة التعبيرية كما فعل الانطباعيون والتجريديون, وأن يتم العمل على كشف الطرق التي تمكُن السينما من التحرُر من الأشكال المزيفة التي تخنقها.

إبراهيم أحمد