في تلقي النص المُبْدَعْ
تطرح مسألة استقبال الخطاب النقدي الذي يُمارس على نصوص الإبداع، غير سؤال ولعل منها العودة إلى مسألة لغة النقد، وهي قضية ستبدو إشكالية بامتياز، وهي تحيلنا بذات الوقت إلى معضلة الإفهام والأفهام، والتي لها في موروثنا البلاغي العربي الكثير من الأمثلة، حينما قيل للشاعر أبي تمام في ذلك المقام المشهور: «لماذا تقول مالا يُفهم، فقال لماذا لا تفهمون ما يُقال»، ولعله السياق ذاته الذي يأخذنا إلى ما كتبه فيثاغورث على باب مقر دروسه: «من لم يكن منكم مهندساً –أي يفهم بالرياضيات- فلا يدخل علينا.
ومن الجلي الواضح أنه بصدد الممارسات النقدية التي تعقب قراءة النصوص الإبداعية، قصة أو شعراً وسوى ذلك، نقف على مستوى الأسئلة المنتجة للمعرفة والمحايثة لها وليست العابرة المجانية، والتي ترقى إلى شغف الكلام فحسب، وعليه يبدو السؤال الكبير هل يقارب النص بغير لغة النقد؟، وبمعنى آخر هل ثمة لغة أخرى تُقدم بها الممارسة النقدية، أي من التبسيط المخل، أو التقعير الممجوج، وكيف يستعير الناقد غير لغة ليكتشف تلك النصوص ويضيئها وينشئ حواره معها، أي يقابلها بلغة إبداعية ترقى إلى مستوى إبداع النصوص وربما تتجاوزها، وهذا السياق الذي يحيلنا بالضرورة إلى فحص مرجعيات المتلقي، صاحب الذائقة والفحص والتأويل وخصوبة القراءة، والتي ينبغي لها بحدود معينة من أن تحيط بأدوات النقد واتجاهاته وأفكاره وثقافته أيضاً، فمن التبسيط المخل أن يذهب ناقد ما إلى ما يسمى بشعبوية النقد، دون أن يشي كلامه بنظرية المعرفة وإنجازاتها بما يخص فكر النقد وثقافة النقد أولاً، فهل نحن ومن جديد أمام «شباك تذاكر» على غرار ما يطلبه الجمهور، على الأرجح أن ذلك لا يؤسس معرفة ولا يمنح النقد خطاباً معرفياً يتماهى فيه فن النقد وعلمه بآن، وتبقى المقاربة بحدود الذائقة العامة –ذائقة الفرجة على النص- ومحاولة رفع الأيدي للعثور على موطئ كلمة!.
أن نعود إذن بالممارسة النقدية إلى سياقها الفاحص للنصوص والأكثر قدرة على تعدد مرايا تأويله، أي بتخصيبه المعرفي الممكن هو ما نحتاجه في خطابنا النقدي، وهو ما يفارق غير خطاب يتوسل المعرفة ولا ينتجها، ويبخس الأفهام الواعية حقها من أن ترى النص بنية فنية وقيمة ليشتق لها المعيار، وتصبح القيمة فعلاً جمعياً لا تأويلاً فردياً فحسب، وما يصدق على الخطاب النقدي في الإبداع، يتعدى إلى غيره من تلك الأنواع المعرفية على غير مستوى.
وإذا كان من المسلم به أن ما يُنتج من نقود في الأغلب الأعم تتمظهر بسياحات عابرة للنصوص، قد ترضي من لم يقرأ النص أيضاً، ومن لم يقف عند شواغله المؤسسة، فإن من الصحيح أيضاً أن العودة إلى فكر النقد تأسيساً وممارسة، هي أولوية لا ينبغي التفريط بها، أو بخسها حقها، لأن العلاقة بني النقد والإبداع في المبتدأ، هي علاقة إبداعية فكلاهما يكتشف الآخر ويضايفه، ليكون متلقي المعرفة فرحاً بما التقطه من معان ودلالات تؤسس فهمه لسيرورة النقد حينما يخط آفاقه على خارطة النصوص، اقتراباً منها وتعليلاً لصيروراتها المبدعة، وليس حفاوة بالاسم فحسب، وإن المعضلة في جانبها الآخر لتكشف لنا ما يمكن تسميته أو ما يصطلح عليه بهشاشة التلقي، إن لم يكن تلقٍ مبدع أيضاً، قائم على الإصغاء الكلي وليس الانتقائي لحوار النقد والإبداع، بعيداً عن إسقاط الرغبات أو الشخصنة الفادحة النتائج، والتي تعصف بالإبداع قبل النقد، ولا تؤسس ثقافة نقدية مازالت الحاجة إليها أكثر من ضرورية، بوصفها حاجة معرفية بالمقام الأول.
أحمد علي هلال