“للحيطان آذان- الوحل”.. الكتابة عما يجري على ضوء ما جرى في سرد روائي
كثيرة هي التساؤلات التي طُرحت وما زالت تُطرح عن دور الأدب في الحدث، فيما جرى ويجري وما سيجري، يمكننا أن نذكر أعمالاً روائية كان لها بالغ الأثر في أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، أي أن الرواية هي الأجدر في تناول الأحداث الكبيرة والفاصلة بطابعها الملحمي، وما يجري في سورية الآن من حرب همجية على الدولة السورية بأساسها الحضاري العريق لا يمكن لشكل أدبي أن يحيط به أكثر من الرواية.
رواية ( للحيطان آذان، الوحل ) للكاتب محمد حسين تناولت الأحداث على ضوء ما جرى، عن هذه الرواية، الأولى للكاتب كان لنا الحوار التالي:
< ثمة ازدواجية واضحة قامت عليها رواية (للحيطان آذا – الوحل) ازدواجية الزمن الروائي، المكان، الشخصيات، الحدث.. ما مبرر ذلك.؟
<< الازدواجية أو الثنائية في الرواية كانت خياراً لا بد منه فرضه الزمن الروائي نفسه المتنقل بطريقة متناوبة بين الآن (الراهن) والماضي القريب (الاحتلال العثماني) أما فيما يخص المكان، فهذه الازدواجية بين قرية ساحلية سورية وأخرى فرضتها حركة البطل في رحلته للبحث عن والده الذي تمّ سوقه إلى السفر برلك حيث يلتقي بنفسه لاحقاً في اللواء السليب لتكتمل الصورة، فالازدواجية هنا هي صورة الأصل- الراهن في المرآة و طبعاً كان التقمص هو الوسيلة (العربة) أو الحيلة الأدبية للسفر عبر الزمن، ولا أعتقد أن ذلك يحتاج إلى تبرير، فالتخييل في الأدب ليس له حدود، حتى وإن كان واقعياً، فكيف إذا كان واقعنا نفسه بلا رتوش أشبه بالواقعية السحرية.!؟
< السرد لا يسير بخط متنام في الرواية، مع ايجابيات هذا الخيار ألا ترى أن ذلك يشوش المتلقي.؟
<< هنا تكمن اللعبة الروائية بشكلها الحداثوي، وهذا ما اقتضاه الفعل الدرامي للشخصيات بعيداً عن الافتعال المبرمج، والسرد هو نتاج هذه الحالة فهو تجلي الشخصيات في حركتها ضمن بيئتها الحيوية، وتنوّع السرد بين الحوار العادي إلى اللغة الشعرية الخالصة هو الذي أعطاها الغنى الذي أريده، والتشويش الذي يمكن أن يحدث سيكون طارئاً عندما تكتمل الصورة في ذهن المتلقي تماماّ كما في لعبة (المربعات) التي لن تصبح لوحة إلا بوضع المربع الأخير منها.
< الشخصيات المزدوجة أو التي هي شخصية واحدة بوجودين، أي تلك التي تبدلت بفعل التقمص، أربكت المتلقي فيما يخص تكوينها وتحديد العلاقة بين ما كانت عليه وما هي عليه الآن، وكان على المتلقي أن يستنتج الكثير مما لم تفصح عنه الرواية، ألا ترى أن ذلك لعبة خطرة.؟
<< طبعاً هي لعبة خطرة على أكثر من مستوى خاصة بوجود جهل بفلسفة التقمص نفسها، ولكن هذه الخطورة اللذيذة هي أحد تجليات الأدب بشكل عام، فمن المفترض بالأدب ألا يهادن وواحدة من غاياته اختراق الموروث وخلخلته بطريقة إبداعية عبر دفع المتلقي إلى المجال الجمالي المثير للتفكير، فالإرباك هنا ليس مجانياً والمتلقي العربي المعجب بالسوريالية الأوربية والواقعية السحرية لأمريكا اللاتينية لا يمكن أن تتعبه بعض الواقعية مع الكثير من التخييل بطريقة حداثوية، فعلى المتلقي أن يتقن لعبة تقفي الأثر التي يفرضها البحث عن المتعة والمعرفة في عالم اختلطت فيه كل المفاهيم بطريقة تجعل من مهمة الأديب غاية في الصعوبة لاستشراف ما هو جميل وعصري.
< لمَ العودة إلى زمن العثمانيين؟ هل لاعتقادك أن مفاعيل ما جرى فيه ما زال مستمراً إلى الآن؟ خاصة ما يجري من حرب قذرة على الدولة السورية.؟
<< ليس مجرد اعتقاد، بل لدي كامل القناعة أن جرحنا السوري المفتوح حالياً على مصراعي الألم، ليس وليد اللحظة الراهنة وإن كان هناك الكثير من الأسباب التي تحاول التعامي عن ذلك، أنا فقط تتبعت خيط الدمّ وصولاً إلى ما قبل المرحلة العثمانية بكل ما شهدته من ويلات ومجازر، ليس أقلّها المجزرة الأرمنية والآشورية السريانية والعربية، بالإضافة إلى سلخ اللواء وما إلى ذلك من عقابيل، هل هناك عاقل لا يزال يعتقد أن كل هذا الخطب وكل هذه المسوخ الآدمية المتوحشة هي وليدة اللحظة.؟ أم أن هناك من نطق بكلمة السرّ لكي تخرج من أوكارها وتعيث فساداً في الأرض.
هنا لا بد من الحديث عن الغش الأيديولوجي، الذي يمنعنا من رؤية صورتنا في المرآة كما هي، بعيداً عن رتوش الشعارات الجوفاء وهذا ما حاولت أن أفعله وأتمنى أن أكون قد وفقت في ذلك.
< الرواية موفقة في رصد ما يجري إبداعياً ومن ناحية المصداقية، وقد تفادت الوقوع في مطب التنظير، هل تفكّر بجزء آخر خاصة وأن هناك تحفيز لذلك.؟
<< لا نحتاج لكثير من العبقرية لتلمس أوجاعنا، فقط علينا أن نصرخ ونتأوه وهو ما فعلته في الرواية كما هو مدون في النشيد الختامي (وحدنا.. وحدهم) المفتوح على كل الاحتمالات، وبالتالي الجزء الثاني وهو فرضية قائمة أعمل عليها حالياً فكما هو واضح من العنوان الموازي والأساسي للرواية ( للحيطان آذان) هناك عناوين ستلي (الوحل).
< المرأة رابط بين زمني الرواية و بين شخصياتها التي عاشت جيلين وزمنين، كذلك نراها الدافع لإغماد السيوف، هل هذا دور المرأة الحقيقي إلى الآن.؟
<< المرأة في الرواية ليست المطهر فقط، بل هي حامل المعرفة أيضاً باعتبار أن الحب يتجاوز فعله التطهيري ليكون فعل خلق وإبداع وصيرورة أيضاً، فكما كانت (هيفاء) الصبية التي أجبرت (عمر باشا غوني) على إغماد سيفه وهي المنتهكة المغتصبة، كذلك ابنتها (حبيبة) الراوي، تنشد بمرارة الشاعرة الإنسانة أخيها الشهيد لاعنة الحرب والقتل كطريق للتغيير والتنوير القادم من الخارج، وهي اليسارية ذات العلاقة العضوية ببلدها، لا يقف الأمر عند هذا فهناك تفصيل بالغ الأهمية في الرواية هو أن هيفاء (المرأة الوطن ) هي زوجة البطل في الجيلين (عمر وعلي) ولذلك فهي حامل الرواية بشكل عام.
< كيف تنظر إلى إشكالية الرواية التاريخية، التفريق بين الرواية التي تتناول حدثاً ما وتلك التي تجري في حقبة زمنية معينة.؟
<< لكل رواية زمن تتحدث عنه وتدور أحداثها فيه، ولذلك فالرواية تأريخ، إن كانت فانتازيا تاريخية أو رصد لواقع معين في زمن معين وإن كان مفترضاً، كما في أعمال نجيب محفوظ (الثلاثية، أولاد حارتنا) لكن لا بد من التفريق بينها وبين تلك التي تقوم على حدث معين أو شخصية تاريخية معينة مؤثرة قامت بأفعال معروفة تاريخياً، كما في رواية (سمرقند.. صخرة طانيوس) لأمين معلوف.
< في هذا النص السردي الطويل تبدو أنك ما زلت مبللاً بالشعر، هذا واضح من اللغة وبنية النص التي تأخذ طابعاً شعرياً في مقاطع كثيرة.. هل أتى ذلك عفوياً أم مقصوداً؟.
<< إلى وقت قريب كانت اللغة الشاعرية عيباً من عيوب الرواية، وكان النقاد يأخذون على العمل الروائي وجودها، الأمر الآن لم يعد كذلك، فالرواية استطاعت تأصيل تجربة الاستفادة من كل التقنيات الإبداعية ومنها الشعر، ذلك ما عمل عليه كتّاب حداثيون، في رواية “الوحل” لا يبدو الشعر مقحماً بل ناتج طبيعي لمواقف قصر عن التعبير عنها السرد بلغته التي لا تصل إلى مقام الشعر في التعبير عن الشحنة الانفعالية للشخصية، ناهيك عن كون الراوي (حبيبة) شاعرة ولديها مجموعة شعرية.
مفيد عيسى أحمد