مطبخ على الحدود
هنا, في مطابخ المدينة, صحنان في زاوية ما, واحد فيه بقايا زيت زيتون والثاني مرشوش نصفه بالزعتر- الأكلة الشعبية التي لا تخلو حقيبة مدرسية منها, الرفيق اللذيذ بعد منتصف الليل-. الألفة بين جدران المطبخ وهذه الأكلة البسيطة لا تجدها هناك.. هم لا يعرفونها ولم يسبق أن قضموا من سندويشة زعتر مع كأس شاي أو مع تفاحة كما يفعل طلاب الابتدائي- ربما نسوا هذه العادة-.
الفوضى الموجودة بين الرفوف, الأحاديث بين الصحون الملقاة بعبثية, الملاعق الخشبية مكسورة الذراع أو المحروقة, صينية القهوة وراء صنبور الماء, كل هذا لا تراه في مطابخهم, إنها مرتبة ومنمقة كأصحابها, لا مكان للتسلية أو الحرية, كل شيء مضبوط النَفَس.
هنا للخبر شكل خاص ورائحة سعيدة, رغيف رقيق المشاعر أبيض القلب, لا يشبه ذاك السمين الممتلئ اللب, حتى الأصابع لا يستخدمونها للتغميس, لا يذوقون الفاصولياء مع “شدّوق” خبز, الشوكة حلت محل الأصابع, جامدة باردة رمادية لا تشعر بشيء ولا تذوب عشقا في قرص “شنكليش” يسبح في الزيت.
نكهة الشاي محبوسة بين إبريقين, واحد من الأعلى وواحد من الأسفل وهي بينهما تتصبب عرقاً, لكنها عندنا معززة مكرمة, تُمسك من خصر ظرفها وترقص في كوب دافئ حتى تتعب وتنحل على راحتها.
مواعيد الطعام عندنا ليست دقيقة, اعترف بذلك, لكن في هذا لذة خفية لا نشعر بها إلا على طاولات الثامنة صباحاً, الواحدة ظهراً, والسابعة بتوقيت العشاء, والطعام الجاهز هو آخر ما يخطر على البال, كل الإعلانات التي تراها على الشاشات كاذبة بائتة لا تشبع العين ولا المذاق, مشبعة بدهن الخنازير, مستوية نصف استواء كأنها مذبوحة للتو.. الله ما أطيب “المجدرة” تلك التي تشاجرت مع أمك مرات بسببها, لم تحبها من قبل، لكنك اليوم تشتهيها.
هناك, لا يمكنك أن تطرق باب بيت البقال وقتما تشاء كي يفتح دكانه لأجل علبة متة, لن يسمح لك بذلك بل ربما سيشتكي للشرطة, فأنت تقلق راحته وهو لم يسمع بها من قبل, أهي أعشاب مخدرة!.
لحظة أرجوك, لا تنفعل كثيرا, جيرانك في المبنى لا تعتبرهم كجيرانك هنا وتتوسم الخير والوجوه الطيبة, هم غرباء كما أنت تماما ولا يعنيهم أمر وجودك بينهم, لن يسلموا عليك عند باب المصعد إذا التقيتهم صدفة, ولن يحلفوا بالله عليك أن تشاركهم فنجان قهوة أو صحن تبولة, ضع حدودا لنفسك كتلك المرسومة بين مطبخك ومطبخهم, الحدود ليست على الخرائط فقط, إنها موجودة بالفعل.
ندى محمود القيم