عن جارتنا دلال التي تحدثت إلى جدار

حديث العقل يجدي مع أهل العقل فقط، لا يجدي مع حجر مثلا أن تجري حوارا كما فعل مايكل أنجلو” نحات عصر النهضة، بعد أن فرغ من تمثاله المهيب “موسى” عندما قال وهو ينظر في عيني ذاك التمثال: “انطق أيها الحجر”وبقي يحاول إنطاقه حتى كسر أنفه، فصارت ميزة التمثال الأنف المكسور وليس العمل الفني بحد ذاته، ورغم العديد من الدراسات التي حاولت التأكيد على أن النباتات تتفاعل مع الحديث الآدمي مما يجعل نموها أفضل وأجمل، إلا أن أحدا ما لم يثبت بعد، أنه اقنع وردة في حديقة مثلا، أن تذهب معه من تلقاء نفسها دون أن يقطفها!، من الأخير حديث العقل يثمر مع أهل العقل لا مع الجمادات أو ما يشبهها!. ولكن كيف سنقنع بهذه النظرية المبرهنة منذ الزمن الذي قام فيه”قابيل” بتغييب عقله فقتل أخاه-لو كان فيه عقلا يفكر لما فعلها أساسا، كما قال جدي ذات مرة-السيدة دلال جارتنا العزيزة، التي تصرّ على أنها تحدثت لأسبوع كامل مع جدار، وأنه كان يجيبها ويرد عليها السلام، وأحيانا كان هو من يبادرها به!، هذه السيدة كيف سنقنعها أن هذا الكلام غير معقول، ولا يصدقه أحد، بل ويهزئون من الذي يفعلها ويسمونه “مجنونا”؟.

المشكلة أن جارتنا تصرّ على أننا من أصابنا المسّ لا هي، وإلا لكنا صدقناها بما ذهبت إليه،عن تلك الأيام التي بقيت فيها لا تكلم أحدا إلا “الحيط” وهو يرد لها الحديث، بل ويبادرها بإلقاء التحية إن لم تفعل هي ذلك، وهكذا صار فينا مع جارتنا، كما حصل مع الذين شربوا من النهر، والذين لم يشربوا منه، فمن شرب تأسف على ضيعان عقل من لم يشرب باعتباره فقد عقله، لأن ماء النهر هو الدواء للوثة الجنون التي أصابت المدينة، ومن لم يشرب تأسف على من شرب من النهر، أيضا باعتبار مائه هو سبب الجنون!.

ولما يئسنا من عنادها وتكرارها لهذه الأسطوانة التي تتحدى فيها عقولنا، قررنا أن نحتكم للسيد المحترم “أبو سمير” وهو بقّال الحارة ومعروف برجاحة عقله، كما هو معروف أيضا بكونه الوحيد ربما في العالم، الذي يسقي ضيوفه “الكركديه”، ولا شراب آخر غيره، فحسب رأيه “الكركديه” هو الشراب الوحيد الذي يُشرب صيفا شتاء، في الصيف بارد يمزج مع الثلج، وفي الشتاء مغليا، ولما “تكروتنا”الكركديه، وسألنا البقّال المحترم إن كان يجوز لإنسان عاقل أن يقول أنه أجرى حوارا وديا مع جدار؟!، قال وبكل ثقة: “مع جدار لا أعرف ولكني أتحدث إلى هذا الميزان منذ ثلاث سنوات أو أكثر بقليل ربما خمسة لم أعد أذكر”، وأشار بأصبعه إلى ميزان “أبو الكفتين” وهو يجلس بفخامة أمامه على براد البوظة الفارغ، وتابع: “وهو بدوره يحدثني ويخبرني بما تحت لسانه”!. من ذا الذي يحدثك يا عمي “أبو سمير” ويخبرك ما تحت لسانه؟ سألنا، فقال: الميزان! هل أمازحكم مثلا”، لا حول ولا قوة إلا بالله، والآن ماذا نفعل، نريد أن نعرف إن كان معقولا فعلا أن يتكلم إنسان إلى جماد أو ما يشاكله في الجوهر، فالبقّال الذي عولنا على عقله، لم تنفعنا رجاحته!؟.

“دلال” جارتنا ابتسمت وهزئت بنا، ثم أدارت ظهرها ومشت بخيلاء وغرور، وكأنها “سميراميس” وليست جارتنا التي فقدت عقلها ولم ينفع معها أي دواء أو نقاش؟ المسكينة مؤمنة أنها عاقلة، خرجنا من البقالية، ونحن نحوقل ضاربين كفا بكف من “مسكين يا عمي أبو سمير وضيعان عقلك يا عمي أبو سمير” وقبل أن نفترق كل إلى سبيله بعد أن اتفقنا أن نسأل عاقلا حقيقيا عن الموضوع في القريب العاجل، رددنا كلنا السلام على عربة أطفال فارغة كرجت أمامنا وقالت لنا بصوت فيه ما يشبه الصرير”مرحبا” يا سادة!.

مسكينة أنت يا دلال، مسكين يا عمي أبو سمير، مسكينة أنت يا عربة الأطفال الفارغة، ومسكين أنت أيها الكلام، مسكين جدا.

تمّام علي بركات