معرض دمشق الدولي في دورته الـ 59..الحياة التي يحيا بين أنفاسها الفرح وأشغاله
“وعليك عيني يا دمشق، فمنك ينهمر الصباح”، تقريباً ما من سوري قصد مدينة المعارض التي تقام فيها النسخة الـ 59 من معرض دمشق الدولي، إلا وكان هذا المقطع الفيروزي بالتحديد، هو ما يدور في وجدانه، بغض النظر إن كان ثمة من يعي ذلك أو لا يعيه بمعناه الباذخ الدلالة، حيث خرج السوريون من كل فج عميق ذاهبين نحو معرضهم العزيز، وبأي وسيلة نقل كانت، بدءا من السيارات الخاصة، مرورا بالباصات التي وضعتها وزارة النقل في خدمة المواطنين و-لنا في هذا حديث آخر-، حتى نصل للذين ذهبوا سيرا على الأقدام، وكأنه نودي فيهم أن هبوا إلى حيث كلكم أهل هذه البلاد، فرمزية حدث بحجم معرض دمشق الدولي لا تأتي فقط من كونه حدثاً اقتصادياً محلياً عالمياً، بقدر ماتكمن رمزيته في الروح التي يخلقها السوريون في أجوائه التي يحيونها، بعيدا وبشكل نهائي وبما يشبه الفصام الجميل، عن كون الحرب، تدور على مئات الأمتار- يا للعزيمة ويا للجمال- و رغم المسافة البعيدة نسبيا لموقع المعرض الآن نسبة إلى موقعه القديم “مدينة المعارض القديمة” إلا أن هذا كان آخر ما شغل بال الناس الذاهبين كالمسرنمين إليه، لتعود بلحظة نادرة وكأنها من “ألف ليلة وليلة”، ليالي طريق المطار إلى ما كانت عليه، من منفرج رطب للأسرة السورية، التي تقصد هذا الطريق للاستراحة على جانبيه، لكن الجميع الآن وجهته أبعد من مجرد “منقل فحم وأرجيلة والمشاوي وحباشاتا” لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، الوجهة اليوم إلى ملاعب الألفة، حيث تترك الذكرى الغالية على قلوب الألوف من الدمشقيين، وغيرهم من السوريين، في الدم مشعلا فتياً، يحملهم ويحمل قلوبهم على جناح المسرة، إلى حيث لعبوا يوما بين تلك النوافير المتمايلة كراقصة أفريقية تغزل الهواء بسكر المعنى، لتطير “الغزلة” ووردّيها الجميل ولكن في القلوب وبين رهافتها أيضا.
الناس والمعرض
الألوف الذين ساروا بقلوبهم أيضا إلى مكان الحدث، لم يكن الزحام الشديد ليمنعهم عن وصولهم مقصدهم، فطريق المطار، من “دوار” الست” وحتى مفرق الجسر الرابع، لم يوجد فيه مكان لوضع القدم، والوقت الطويل والمرهق والمكتظ عن أم أبيه بكل من هب ودب، لم يسمح للملل أو اليأس أن يتسلل إلى النفوس، فتعف عما هي ناوية إياه.
الصبايا “سهى –نجد- ريمان” اللواتي لم توهن عزيمتهن وهن في بداية الرحلة الطويلة والبطيئة إلى المعرض، حيث قمن بالترجل من الباص المخصص لزوار المعرض مع غيره من الباصات أيضا، وبدأن المسير على أقدامهن، وهن عالمات بأن أقل وقت لبلوغهن المنى، لن ينقص عن الساعتين سيرا على الأقدام بل أكثر؟ الصبايا اللواتي قررن عدم العودة رغم كل ما تكبدنه، تحدثن عن هذه الزيارة الشاقة ربما ولكن بلسان الفرح، الطالبة الجامعية سهى وبعد سؤالها بداية ألا تخافي مما قد يحدث قالت : “الخوف!! هذه المفردة لم تخطر في بالي وأنا اتفق مع صديقتي للذهاب إلى المعرض، وكما ترى زحام الطريق لن يثنينا عن هذا، مازالت الحرب نفسها لم تقدر أن تفعله.
أما عازفة العود “نجد” فهذه المرة الأولى التي تذهب إليه: “أنا من محافظة أخرى، لكن خالي كان دائم الحديث عن هذا الحدث، عن روعته وألفته، حينها كانت الصور الطريقة الوحيدة التي أرى أن أحضر فيها هذا العرس الوطني العريق، لكني الآن وقلبي ذاهبان إليه ولو سيرا على الأقدام.
السيدة ريمان التي أتت الحرب على بيتها وبعض من أهلها سواء أولئك الذين فتحوا عتمة خيالهم ودخلوا فيها، أو أولئك الذين سافروا وصاروا وجوها وأحرف تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي فقالت: اشتقت للناس، لرائحة الزحمة ومشقتها، اشتقت للحياة التي تتدفق في أوردة دمشق الدموية، انظر كم هو مفرح هذا المشهد، ثم دلت بيدها إلى أرتال السيارات الواقفة، وإلى ألوف الناس الذين فضلوا السير من منتصف المسافة، فالشوق غلابّ.
جناح ومسؤول
أجنحة المعرض من بداية البوابة الرئيسية وحتى آخر متر مربع، مشغولة بحركة تبدو كحركة أفعوانية من منطقها وليس شكلها، وها هو جناح الجمهورية العربية السورية، الأبهى والأجمل يرحب بالجميع، وكأنه يضم بذراعيه، بينما رائحة خبز طازج تشق القلب، عبقت من الفرن الذي أقيم في المكان، وفي زيارة إلى عدة أجنحة مختلفة بنوعها وبما تقدمه، كان لنا الأحاديث التالية مع العارضة السورية.
المهندسة “لينا زعبي”، والتي يعتبر جدها من مؤسسي هذه التظاهرة ومديرة جناح وزارة الكهرباء في المعرض، لا تدل إشراقاتها وضحكتها الدائمة، على أنها لم تنل قسطا كافيا من النوم، منذ بداية التحضيرات للمعرض قالت وهي بين اللحظة والأخرى تجيب أحد الزوار الأجانب عن هذا المشروع المعروض هنا، أو تلك الآلة هناك، بعد سؤالها عن ما تعنية لها شخصيا عودة معرض دمشق الدولي وعودة الحياة إلى الحياة: الحياة في دمشق وسورية لم تذهب لتعود، تعال لأريك، إنها لوحة جدارية كبيرة، كُتب عليها أسماء شهداء وزارة الكهرباء وجرحاها، وتابعت: هؤلاء وأخوتهم في الجيش العربي السوري الرسولي وحامي الحمى، لم يسمحوا للحياة أن تذهب، فقد قبضوا عليها بأرواحهم، لذا فهذه النسخة من المعرض لها مكانة خاصة في قلوب الجميع، فالحدث العظيم، صار بأرواحهم وبقيامات مجدهم عليهم السلام.
وفيما يخص مشاركة الوزارة في المعرض، أخبرتنا “الزعبي” عن مجموع المشاريع التي تعرضها وزارة الكهرباء ومنها السيارة الكهربائية التي وضعت في واجهة المعرض، ورغم أنه مكان جاف نسبيا أي جناح الكهرباء، إلا أن الألفة التي يشيعها الفريق في المكان، يصيب بعدوى الفرح رغم التعب.
أيضا حضرت وزارة الثقافة في جناح متواضع نسبيا بالنسبة إلى بقية الأجنحة السورية، وكان لقسم السينما كواحد من أقسام الوزارة، حضوره، وذلك في عرض بعض كاميرات التصوير السينمائي القديمة جدا، عدا عن الكتب التي تنتجها المؤسسة، السيد “صلاح كمال الدين” رئيس القسم في جناح الوزارة، تحدث عن مشاركة القسم بقوله: نعرض هنا كما ترى ما يخص السينما، سواء الكاميرات التي ترى، أو الكتب المعروضة عن السينما، لكن الأهم كما أرى أن هذه العودة الميمونة للمعرض هي من أشغال الحياة، ونحن من الذين يحيكون خيوطها في سورية. وعند سؤالنا إن كانت السينما بحاجة إلى معرض، أجاب بالتأكيد، يجب أن تتعرف الأجيال الجديدة على واقع السينما الذي كان والذي ما زال ينبض، هذه بوسترات لأفلام قديمة، وثمة العديد من الأفلام السورية هي أيضا للبيع، حيث يقتني الناس هذه الأفلام لثقتهم بكونها مضمونة الجودة، عدا عن رغبتهم في مشاهدتها مرة أخرى.
أما مدير جناح الهيئة العامة للكتاب، فرفض الحديث عنه، معتبرا أن ثمة مكتباً صحفياً يجب الرجوع إليه!
مشاركة وزارة الثقافة هي طبعا مشاركة رمزية عن كون الحياة الثقافية السورية بخير، وكان بالإمكان بقليل من الجهد، أن يكون لهذا الجناح حضوره الفعال والقيم في هذه النسخة من المعرض، العائدة بعد سنين عجاف إلى الحياة وأشغال الحياة عند السوريين المتلهفين إلى كل ما يعنيهم ويخصهم.
بين طرقات المعرض طار على جناح الفرح قطار رمزي، مكون من عدة عربات يحب ركوبها الصغار والكبار، للقيام بجولة في مدينة المعرض على وقع الأغاني الحماسية: الشاب صاحب القطار جعفر منصور قال: دعتنا مشكورة إدارة المعرض ليكون لهذا القطار الرمزي الشهير بوجوده في مدينة جبلة، وكما ترى عربات القطار لا تفرغ لا من الصغار ولا من الكبار، وهذا بالتأكيد مفرح لنا من حيث المردود المالي، وأيضا بالنسبة للأطفال الذين يحبون هذا الجو الذي يشيعه القطار بين الناس.
الصبية “ديمة ونوس” في جناح الأشغال اليدوية والتي بدأت حديثها بالسلام على أرواح شهداء سورية وجيشها العظيم، قالت: “الإقبال الشرائي ضعيف نوعاً ما لكن هذا يعني أن الطريق فتحت ليكون العمل قائما وبشكل أفضل في السنين القادمات، لكن المهم هو أن السوريين تعلموا الاعتماد على أنفسهم في صناعاتهم، وهذا بحد ذاته إنجاز عظيم.
جناح خاص، يدخل القلب بلا استئذان، إن كان في فكرته أو في طبيعته القائمة على طبيعة المرأة السورية عموما، فالسوريات بنات الحياة وأمها أيضا، لذا لن يغبن عن عرس وطني كهذا، السيدة “جنان كمال الدين” المسؤولة عن مشروع “نساء يعدن الحياة” تقف على باب الجناح مرحبة بالزوار وشارحة عن مشاركتها في مشروعها القائم على الصناعة اليدوية ومنها إعادة تدوير القطع القماشية المهملة، حيث تم حياكة العديد من السجادات واللوحات التي عملت بها أيادي نساء طموحات، يردن لمشروعهن أن يكون رائدا، خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، حيث وفر المشروع أكثر من 50 شاغرا للعمل لزوجات شهداء وذويهم في العمل، وهي تأمل أن يكون العمل على مشروعهن مستقبلا مدعوما من خلال التسويق الذي يبدو صعبا عليهن، لكن السيدة جنان تفاخر بسجادة أرضية بديعة، حاكتها والدتها السبعينية من مهملات الأقمشة، لتخرج بلوحة فنية بديعة، وفيها ما فيها من الرسائل، لسيدة لم تقبل أن تنظر إلى الحرب ثم تتنهد وفقط، بل قررت أن يكون لها دورها في أشغال الحياة وهذا ما كان.
في الحقيقة الحديث عن هذا الحدث العظيم، لا تكفيه أسطراً في صفحة جريدة، فالفرح الذي خلقه السوريون من قلب الحزن، يعني الكثير الكثير، حتى لو اضطر الناس إلى الوقوف على أرصفة طريق المطار للساعات الأولى من الصباح دون أن يجدوا من يقلهم، وذاك بسبب الزحام الشديد، والذي لم يهدأ مذ فتح المعرض أبوابه للناس، فرح منفلت من كل قيد، حتى عندما سقطت عدة قذائف ارتقى إثرها شهداء معرض دمشق الدولي كما ينبغي أن تكون تسميتهم، أما الحدث في حد ذاته، فهو يتحدى الموت، وعلى ما يبدو هذا هو قرار السوريين عموما، أن يتحدوا الموت بالفرح، وإن لم يكن به فليكن بالموت أيضا، طالما أن الحياة وأشغال الحياة، هي ما يعنيهم، وهي ما يبقيهم على الوعد “شآم أهلوك أحبابي وموعدنا أواخر الصيف آن الكرم يعتصر”.
تمّام علي بركات