ثقافة

ومضات

حالة

منذ أيام لم يعرف طعماً ليومه.. يستيقظ وينام على شيء ضاع منه.. افتقده.. أحس بفراغ كبير.. اعتاد على سماعه طوال الوقت.. الفراغ يملأ المكان.. فقد ذاك الصوت الرخيم.. اعتاد على تربية الكناري لأجلها.. اعتاد على أوقات مخملية مع ذاك الصوت.. الآن يحس بأنها هجرته.. للحظة أنهض رأسه بتثاقل عن وسادته.. سمع شيئاً بعيداً.. شيء يحفظه، أجل انقلب إلى صوت.. أحياناً كان الصمت يأتي من بعيد إلى نافذته، كانت أذناه تستقبله، تجذبه ببطء إلى الغرفة، ومن فوق السرير، حتى داخله.. نهض مسرعاً ليزيح ستار النافذة.. وجدها جميعها.. الكناري.. وفي ليلة دافئة مرّ أمامها.. بل وسطها.. كما لو أنه وسط جمع من الملائكة يغني.. أحس نفسه في حلم.. تمنى أن يبقي عينيه مغمضتين.. أصابه الرعب من أن يستيقظ ولا يجد ما أَحَسَ به.. أحياناً كثيرة كان الليل ينبهه بنداء، نداء في مكان ما.. في قاع الوادي، من صميم القلب، هذا الصوت الرخيم الذي يصعد ولا ينقطع عن الصعود الذي هو مثل كائن كامل.. محوّل إلى صوت كل شيء فيه، الهيئة والوضع، اليدان والوجه، أحس نفسه هائماً في بحر حبه.. لقد وجدها.. لقد اقتنع أنه على الحب أن يكون وحالته هذه مسار ذاك السهم الذي تلهبه سرعته.. أبداً لا توّقف، أبداً لا امتلاك كون المرء محبوباً معناه احتراقه في لهب النار، أما الحب فهو السطوع بنور لا ينضب.

حلم

كم هو بحاجة إلى الجلوس وحيداً في مكان منعزل عن ضجة العمل والمدينة.. تعبت روحه من الخوض في نزاعات وصراعات ليصل إلى شيء يحققه، لكنه ملّ.. أصبح يحب اللجوء إلى الأماكن البعيدة عن كل ضجة.. هو بحاجة لأن يجلس تحت فيء شجرة تخيم بظلالها لتمنع دخول حرارة الجو إلى مكان جلوسه.. تعب من الضجة وتسارع الوقت والبحث والمناقشة.. حياته بدأت تأخذ منحى جديداً.. اكتشف مدى حاجة نفسه للراحة والاستمتاع بكل ما هو طبيعي.. شجر وبحر ربما وطيور.. هواء نقي.. بحاجة ماسة لتنظيف صدره من الدخان الذي سببته زحمة المدينة.. ليعيش الإنسان حياته مفعمة بالعافية.. ولينضج حسب ميله الشخصي قبل أن يأتي الموت، لا انقطاع بل استكمال الوجود، إنه الانفتاح الأعظم.. اليوم قرر البدء من جديد.. جلس تحت شجرته الوارفة.. أحس بنسمات صيفية خدرته وكأنه انتقل إلى عالم آخر.. عالم من الأحلام والرغبات.. عالم من الطموح وتحقيق الأمنيات.. وعلى الرغم مما كان يزلزله في أعماقه لم يكن يعيش منكمشاً بمبلغ قدرته على التخاشن في العلاقات الإنسانية.. كان يحتفظ مع ذلك وفي أسوأ الأوقات بمخزونات هائلة من عناية الآخرين، فليس من مكان يستطيع أن يستقر فيه الإنسان ولا الثناء، فالبهاء لا يدوم سوى لحظة.. وما رأينا شيئاً أطول من الشقاء.. أحس بشيء كبير تبدّل في نفسه.. راح الحلم يكبر.. وتكبر معه الصرخة التي كانت في الوادي، فإذا هي تملأ الآفاق والوديان والجبال والسهول، تطيح بالأشجار والجبال والحجارة حتى لم تبقِ عليها أحد.

صداقة

لمح في عيني رفيقه أطيافاً ناعمة تترقرق كسحابات صيف فداخله الشك.. ترى هل هو حزين؟!.. لم يحاول الابتعاد والجلوس وحيداً مع نفسه.. منذ قرر الارتباط بمن عشقها ورفيقه على حاله هذه.. ترى هل هذا سبب حزنه؟!.. ما ذنبه هو؟ّ.. ولم صديقه متضايق إلى هذا الحد؟!.. هو من شجعه على الارتباط!.. ما هذا التناقض؟! الكون منذ فجر الحياة مسرح للصور المتضادة والمظاهر المتناقضة.. فهذا الحزن والفرح، وهذه الورود والأشواك.. ما عساه يفعل كي يعرف علّة صاحبه.. لا يطيق أن يراه هكذا.. أيام قليلة ويقيم فرحه.. وحينها  سيلوم نفسه لو كان ذلك سبب حزن رفيق عمره.. نهشت الحيرة روحه ووقته، لم يعد قادراً على التركيز.. سيواجهه بكل ما يخطر بباله.. سيضع حداً لأسئلة حيرته.. هل كان ينوي خطبتها..؟! أم أنه صدم؟ لا.. لا..  تنازعته حالتي الصداقة والشك.. حاول النوم.. لم يستطع.. انتابه الفزع من أفكاره وجحظت عيناه كأنه مخنوق، أغمض عينيه ليهرب من وساوسه، وجد الظلام تحت جفنيه.. كانت كل فكرة تخطر له تخزه كالشوكة في صدره، يكاد يصرخ منها.. يصرخ غيظاً وحقداً وخوفاً.. طرق الباب.. أصابه الوجوم للحظات.. ثم بدأ وجومه يتلاشى.. أحس بفرحة خفيفة تنساب إلى قلبه.. نظر إلى رفيق عمره وقد اتسعت عيناه وانطلق منهما بريق لامع.. كأنه يحاول أن يخترق سحب الغيب.. وقبل أي سؤال زم شفتيه وارتسمت إمارات الاهتمام العميق.. التقت نظراتهما بفيض من المشاعر الطيبة التي تختلج في صدريهما.. ما أعظم أن يكون للإنسان صديقاً يمنحه كل الثقة والود.

تغريد الشيني