ثقافة

الهاربون من الزمن الجميل

تحت شجرة الزنزلخت في الحي القديم، هو وأم كلثوم يتقاسمان ما تبقى من الليل.. إنه التوقيت الذي يناسب حضورها.. سيدة المساء بجبروتها اللطيف,  كانت تعترف بقلة حيلة أنها تغيرت “شوية شوية” بينما كان هو  يمجّ من سيجارته نفسا متعبا بعد كل ما مرّ عليه في نهار ذاك اليوم.  لقد فقد صديق عمره, قطعة من روحه سافرت إلى السماء واستقرت في علياء أخرى حيث لا مكان للألم أو الجوع. هذا الانتقال الحتمي لابد أن يحصل وهو مؤمن بالفكرة، وبأنه قد يكون أكثر راحة وجمالا, إلا أنّ الفقد بشع بكل أشكاله.

من طقوس الاستماع إلى أغانيها أن تفقد التواصل مع محيطك وأن تسافر مع كل كلمة إلى ذكرى.. أن تنوح مع بحّة صوتها، وأن تبتسم طويلا عندما تلمّح هي لحادثة ما, حصلت معك ومع الجميع بلا شك، فمن لم يزره الشوق ومن لم يسرح بخياله مع وصفة الصبر, باختصار إن أم كلثوم.. رفيقة مكسوري الخاطر والواقعين في الحب عمدا.

لكنّ هذه العزلة اللذيذة لا يلوّث طعمها إلا ضيفا ثقيلا، الجار الذي جافاه النوم أو هكذا تظاهر لكي يخفي هروبه من حديث آخر الليل مع زوجته.. جاء لـ “يتونّس” تحت شجرة الزنزلخت وكأن لا مكان له غيرها. إنها الحاجة للجماد، الجماد الذي يسمع دون أن يقاطع أو ينظّر ودون أن يطلق الشتائم, صحيح أنه مادي وبلا روح لكنه يشارك الكثيرين همومهم دون أي مقابل. استند عليها ومال بظهره على جذعها، وهي بدورها لوحت بنسمة باردة وأرخت ظلها، الظل الذي لا تفرده صباحا..

تنحنح الجار بحديث لكنّ جاره في المكان أشار بيد متوسلة، أرجوك لا مجال لأي صوت آخر.

بعد قليل توقف سائق بسيارة أجرة قربهما.. كانت تجوب الشوارع بحثا عن زبون متأخر عن باص السفر أو شاب عائد من سهرة ما أو لعله موظف أنهى مناوبته ولا نية له بالمشي, هكذا هم زبائن الليل عادة..

أطفأ محرك السيارة, فتح بابه وأخذ رشفة قهوة من فنجان كرتوني يرافق أغلب السائقين والمسافرين- إنه الشريك الذي لا ينام على الطريق- ثم أرجع المقعد إلى الخلف ومال برأسه باتجاه الصوت, أما أفكاره فتجمعت في رأسه بفضول وأرادت أن تشارك في هذا الطقس العفوي الجميل.

الجارة في الطابق الأرضي، كانت تسترق السمع من خلف الباب، إنها سرقة مشروعة ولا يحق لأحد أن يعاقبها على أن الصوت تسلل من شق بابها خلسة، لقد شعرت بأنه زائر جميل جاء ليطيب خاطرها ويؤنسها.. هي المنسية منذ أن تركها ابن الجيران تكبر لوحدها وتعد النجوم كل يوم, وهو بالمقابل يلهو مع أحفاده بهدوء ستيني متقاعد.

عامل النظافة مرّ أيضا كما كل يوم, يجرّ عربته بتثاقل ويمشي والهم يسبقه بأميال, لكنه وما إن سمع الموسيقا حتى عاد الشباب إلى جسده, نسي كل شيء ورجع إلى نقطة لم يزرها منذ زمن,  توقف عند زاوية الطريق, سحب المكنسة ذات الشعيرات الشعثة وبدأ يراقصها وكأنها أنثى مثيرة، وكأنها حبيبته الأولى والأخيرة فتارة يأخذها إلى اليمين وتارة إلى الشمال ثم لف بها دورة كاملة كادت أن توقعه أرضا, لكنه رغم ذلك.. كان سعيدا جدا.

أربعة رجال وامرأة, خارت قواهم برضا تام، أفرغوا ما في قلوبهم دفعة واحدة, فتحوا ألبومات صور قديمة, ضحكوا مع ذكرياتهم ومسحوا دموعا مالحة, ثم صفقوا مع جمهور الزمن الجميل.. الذي لم يبق منه إلا اسمه.

عندما لاح الصباح بضوء من بعيد, كان الحي هادئا تماما وكأن ما حصل في الليلة الماضية مجرد سهرة عادية من عام 1970.

ندى محمود القيم