زياد جبيلي: مرهقٌ أن تصيبني لعنة القارئ كلما أمسكتَ بالقلم!
لم تأتِ شاعرية زياد جبيلي من قراءاته لكبار شعراء قصيدة النثر محليا وعالميا، رغم أن خوضه في مفازات شعرهم الذهبية فيما بعد، جعلته يتعرف إلى ذلك البعد المبهم قليلا في جانب هذه القصيدة، خصوصا في مقاربته لها شعريا وفق ما مزجه بين خياله وما هو حقيقي وواقعي لدرجة تبدو أيضا لا تصدق وكأنها خيالية، بقدر ما جاءت هذه الشاعرية من الإصرار اليومي للحياة على أن تجعل كلام والده وهو يوقظه إلى المدرسة، بمنزلة منبهه للحياة والشعر، حيث يكون مفتاح الاستيقاظ من النوم على وقع الشعر، يخبره والده وهو يوقظه عجز بيت شعري، يرد فيه زياد بصدر هذا البيت، وهكذا بين بيت فيه للشعر حصة القلب، وبين حواري اللاذقية التي حفظ شاعرنا لغتها النابضة بالحياة الطازجة واليومية، مضى جبيلي ليكون من الأسماء الشعرية اللاذقانية، التي حققت حضورا شعريا مميزا، ومنذ بدايته بنشر قصائده في الدوريات المحلية والعربية المختصة، قبل أن يصدر مجموعته الشعرية الأولى “لاغيم يقود العربة”. البعث التقت الشاعر زياد جبيلي وكان الحوار التالي:
< مبدئيا دعنا نعرف لأي جيل من الشباب السوري ينتمي زياد جبيلي؟ وما رأيك بتصنيف الأجيال الشعرية؟
<< لا أعلم إن كان يجب أن يتم تصنيف الجيل الذي أنتمي إليه الآن أو أن تترك هذه المسألة للوقت, ربما نكون جيل الحرب, جيل الكتب الأولى المولودة بين الركام والرصاص والتفجيرات و”الليدات” والبرد, جيل لم يُسمح له أن يُغمض عينيه ويتخيّل، وُضِع في قلب النار وقالوا له تكلّم، جيل تشرّب كلّ من سبقه بإتقان تلميذٍ يجلس في المقعد الأول في الصف، وأبدع بأسلوب طفلٍ مشاغب حيّر الأستاذ من أين يأتي بهذه المعرفة رغم مشاغبته. هذا جيلٌ يجب أن يُحترم بكلّ ما يثيره من فوضى، أما الاتفاق على مصطلح الأجيال الشعرية فالغاية منه هو الوقوف على حركة الشعر وتطورها أو تراجعها, رصد التغيّر البنيوي في القصيدة تماهياً مع التغير المجتمعي والاقتصادي والسياسي، قصيدة السبعينيات تختلف تماماً عن قصيدة الستينيات على سبيل المثال وقصيدة الثمانينيات لم تخرج من عباءة السبعينيين، التزمت الخرق الذي فعله من سبقها ونوّعت عليه، ربما لأن هذا الخرق لم يحدث في الشعر منذ عهد بشار بن برد المحدّث الأول, نحن الآن على أعتاب تجربة جديدة في الشعر هذا ما علّمتنا إياه الحروب عبر التاريخ، بعد كل حرب يوجد ولادة جديدة لمدارس وخطوط وأساليب شعرية على صعيد الأسلوب أو الشكل أو البنية أو المفردة.
< نرى لموجة شعرية “فيسبوكية” ربما لم يسبق لها مثيل، حيث أصبح الجميع شعراء وقراء معا، كيف ترى هذه الحالة، خصوصا في مرحلة خاصة كالتي نمرّ بها؟
<< حين اختُرع المسدس قال مخترعه:”الآن يتساوى الجبان مع الشجاع” الفيسبوك بالنسبة للشعر مثل المسدس بالنسبة للحياة, من الطبيعي أنه وبعد كل حرب، هناك حركات شعرية تولد أساسها التجريب، والتجريب لا يأتي إلا من الهدم والتكسير ثم البناء على ما تكسّر, لا يمكنه أن يأتي من النظريات والقوالب الجاهزة, لذا لا يجب أن نطلق حكماً على ما يحدث الآن, ما يحدث يحتاج وقتاً حتى يتبلور وينضج, على مرّ العصور كان هناك شعر رديء وآخر سيء, الزمن كان المقياس والحَكَم, أعتقد أنّه بعد أربع أو خمس سنوات سنكون قادرين على إطلاق حكم حول التجربة الشعرية التي تحدث الآن, إذا اتفقنا على ماسبق سنتفق على أنّ اللايك لا يصنع شاعراً, الجميع قرّاء وشعراء وأضيف إلى ذلك أنهم نقّاد أيضاً, الجميع تماماً, لكن هناك سؤالٌ يطرح نفسه: متى كان الشعر شعبوياً إلى هذه الدرجة؟ أستعير كلام “منذر مصري” حين قال:”الشعر الآن لا يقرأه إلا الشعراء أنفسهم”, كان يتحدث عن الشعر الجيد بكل تأكيد, إن كان لا يقرأ الشعر إلا الشعراء أنفسهم من أين للبقية أن ينتجوا شيئاً غريباً عنهم, البقية – من غير الشعراء- وهم الأكثرية الناقدة والشاعرة والقارئة, حين سُئل بلزاك عن تعريف الديمقراطية أجاب:”عشرة حمير يهزمون تسعة بلزاك”, هذا يؤكد أننا لا يجب أن ننساق وراء جماهيرية العالم الافتراضي, الحقيقي سيبقى حقيقياً والفقاعة سيأتي يوم وتختفي, هي مسألة وقتٍ فقط.
< إذا كان الشعر الكلاسيكي قادرا على تزويد اللغة بمفردات جديدة، أو على الأقلِّ تراكيب جديدة، فما الذي يدفع قصيدة النثر التي تكتبها للقيام بذلك، باعتبار أن أحد أهمِّ أسباب وجود قصيدة النثر هو الخروج على الشروط الفنية القديمة التي تقيد الشعر.
<< إذا كان لابد من المقارنة بين قصيدة النثر اليوم والقصيدة الكلاسيكية فهو أشبه بمقارنة سيارة بورش بسيارة بيجو موديل1950, لست متأكداً إن كانت البيجو موجودة في ذلك العام، لكنني متأكّد أن البورش موجودة في يومنا هذا، قصيدة النثر ليست بمثل سرعتها لكنّها تحمل الأناقة والإتقان والتطور نفسه, أن تزوّد اللغة بتراكيب جديدة هي إحدى وظائف الشعر، لكن أن تنقل الصورة كما حدثت محتفلاً بالهامشي واليومي واللامبالاة به هو جوهر قصيدة النثر, أن تجعل لساعد الكرسي الأيمن حضوراً, أو أن يكون للوحدة صوتٌ وللفراغ لسانٌ ينطق به, أن تنزع عنك ربطة العنق وتتنازل عن المنبر لتقرأ شعراً في الشارع, أن ترد الاعتبار للفريق الخاسر حين ينساه الجميع حتى مشجعوه, هذا ما أضافته قصيدة النثر بابتعادها عن العناوين العريضة والمدن الفاضلة والمبادئ الطوباوية، هذا ما أضافه شاعر النثر بتخلّيه عن صفة الشاعر الرائي الإله وتحوّله إلى شاعر الأشياء البسيطة, أهم شرط من شروط قصيدة النثر هو أن تخرج عن الشروط والقوالب والقوانين وأكثر ما يشغلني حين أكتب هو كمية الشطب التي سأقوم بها وأنا أكتب, أصبحتُ نثرياً أكثر مع التمرين والتقدم بالعمر والتجربة, أنطلقُ بسلاسة لكنّ بدايات القصائد مازالت محمّلة بصخورٍ أحملها معي ربما من حياةٍ سابقة, لا أعلم لماذا أفكّر كثيراً قبل أن أبدأ, ولماذا أتردد دائماً، لا استطيع أن أقرأ المسودات التي أكتبها بعد فترة قصيرة من إنجازها لذلك أنقلها فوراً إلى اللاب توب، ربما هذه الصعوبة والتفكير المبالغ به سيدفعاني إلى التوقف عن الكتابة في النهاية, أمرٌ مرهقٌ أن تصيبك لعنة القارئ كلما أمسكتَ بالقلم.
< “لا غيم يقود العربة”، بداية كيف تنظر إلى عنوان المجموعات الشعرية بشكل عام؟ يعني هل هي اختزال شديد للمجموعة؟ أم أنها مقطع شعري منفصل متصل بحد ذاته؟
<< العنوان هو الأساس الذي ستبني عليه علاقتك مع القارئ, مثلما يختار القارئ العناوين والكتب بناء على ذائقته الثقافية والاجتماعية أنت أيضاً كشاعر تختار قارئك وتومي إليه وتجذبه, إن نجحت بجذب القارئ الجيد إليك فالباقي لن يكون سهلاً باعتباره “القارئ” سيحاكمك بناء على الانطباع الأولي الذي تلقّاه من العنوان ولوحة الغلاف ومن هنا تبدأ حفلة الشتائم على ما أعتقد، “لا غيم يقود العربة” أقرب إلى اختزال لكامل المجموعة، لاحقاً عرفت أنّه اختزال لنمط الحياة التي أحياها، وبقليلٍ من الغرور أراه يمثّل حالة الشعر في هذه المرحلة، الشعر الذي لا يقوده تابوهات الماضي وليس يبشّر بمستقبل أفضل، الشعر الذي يمثل الحقيقة الآن، والآن فقط.
< تترك انطباعا بأنك شاعر تتماهى مفرداته مع مشاهد حية وواقعية، وهو أمر خطير باعتباره ينحو باتجاه المحاكاة الأرسطية، لكنك تنجو منها برشاقة جملتك الشعرية وانفعالها اللفظي. ما الانطباع أو الأثر الذي تتركه قصيدتك ينفذ إلى مسام القارئ اللاشعورية برأيك؟.
<< هذا سؤال محكمة، إدانة ثم قرار بالبراءة، لم أر الكتابة إلا مشياً دائماً على حدّ السكين، نعم قصيدتي صوريّة مشهديّة حاولت الهروب فيها من لعنة من سبقني على صعيد بناء الجملة والأسلوب النثري المتوارث، لا أعرف إن نجحت في ذلك، أردتُ أن يلتفتوا إليّ، أن يقرؤوني، ليس القارئ فقط، إنّما الصقور، صقور الكتابة كبارها وأصنامها، لم أرد أن يضع أحدٌ يده على كتفي ويشفق علي، أردت كسب الاحترام منهم في كتابي الأول، هل نجحت؟ لا أعلم، لكنّي بذلت كل جهدي حتى أستحق الالتفات نحوي ولو قليلاً، أمّا الانطباع الذي تتركه القصيدة لدى لاشعور القارئ فهو سؤال يجب أن يوجه له، لم أفكّر كيف سيتلقاها، هاجسي كان أن أجعله يرى ما أرى ويشعر بما أشعر ويعيش ما أعيش، ردّة فعله عندها لن تكون على القصيدة وإنما على ما رأى.
< يقال أن فاتورة الشعر السوري باهظة أكثر من غيرها من الجغرافيات العربية الأخرى, ففي بلد خرج منه “نزار قباني وأدونيس ومنذر مصري، علي الجندي، الماغوط وغيرهم كثر” ولاسيما أن الأخير كما يقال نقديا، سدّ كل النوافذ أمام اجتراح قصيدة مغايرة ,كما أن اغلب النقاد رأوا أن اغلب الشعراء الذين جاؤوا بعد “الماغوط” خرجوا من معطفه,حتى أن عبارة “معطف الماغوط” صارت، أشهر من معطف “غوغول” .ماذا تقول في هذا الرأي وهل ينطبق على كل الأجيال التي تلت “ماغوطنا” أو غيره؟
<< أن تكتب في بلد أخرج كل هؤلاء الكبار شيء وأن تخرج من معطف الماغوط شيءٌ آخر، شخصياًّ لم أتأثر بقصيدة الماغوط كثيراً ولم أفكّر بسدّه للنوافذ والأبواب أراه أوّل من مهّد الطريق ولم أنظر إليه يوماً بوصفه مانعٌ للوصول إن صحّت المقاربة فيمكن تشبيهه ب”غوته” وعلاقته بالشعراء الجدد حينها ك”نوفاليس وشليغل” وغيرهم، كان منذر مصري وسليم بركات ونوري الجراح وبسام حجار ووديع سعادة أقرب إليّ منه, ربما كانوا لعنتي لفترة طويلة قبل أن أخرج منهم منهك القوى تماماً، بالنسبة للأجيال الجديدة أجزم أن كل من رُفعت القبعة له رُفعت لأنّه قارئ بالدرجة الأولى قبل أن يكون شاعراً، أتحدث عن الأصوات الواضحة ذات الخصوصية والبعيدة عن التناص والتماهي والتأثر بمن سبقوها أصوات الجهد الواضح في البحث عن خصوصيتها وخطها وأسلوبها، المشكلة أننا لاشعوريّا بحاجة لردّ الفضل لأحدٍ ما، ك(مجتمع عربي)، ضمن هذا السياق ننسى أن نقول شكراً للشاعر نفسه وننسى أن نعترف بما قدمه من إضافة، ربما لهذا السبب مازالت مقولة “معطف الماغوط” صامدة حتى الآن.
< ماذا ينتظر شاعر مثلك من وزارة الثقافة التي من المفروض أنها تعنى بهذا الأمر، وماذا يشغل رأس زياد جبيلي الآن؟
<< أهم ما فعلته وزارة الثقافة هو طباعة كتب قيمة جداً، وقدمتها للقارئ بأسعار زهيدة جداً، وهذا ليس بالقليل طبعاً، أنتظر طباعة كتب جديدة، غير ذلك لا أنتظر أن أقيم أصبوحة أو ظهرية في أحد المراكز الثقافية يحضرها موظفو المركز فقط ومن يأتي معهم من “الأحبة” من باب الواجب، كما في العزاء مثلا.
أما ما يشغل رأسي فهو العودة إلى الكتابة، توقفت منذ مدة ولا أعرف السبب، هناك ديوان جديد لا أعرف متى أنتهي منه، بعدها ربما لن أعود للشعر مرّة أخرى، أريد أن أنام دون أصوات في رأسي كل ليلة وألعب مع أطفالي، لا أعرف إن كنت صادقاً فيما أقول، ربما هي حيلة فقط لاستدراجه حتى يعود، ربما.
حوار: تمّام علي بركات