ثقافة

“مخوليات” في “ألف نون” بين شغف اللون وضوء الحرف

في دمشق، وبين شُعبِ قاسيونها المهيب، الواقف أبدا كالأب الفارد يديه داعيا للطمأنينة، تقع مساحة صغيرة في حجمها إذا قسناها بالأمتار المربعة وبلغة الدّلالين، إلا أن تلك المساحة الصغيرة ذاتها التي تشغلها صالة “ألف نون” للفنون والروحانيات، شكلت حالة سورية فريدة بلغة أهل النور، وذلك في منح المكان ضفافا لا حدود لما يمكن أن تصل إليه في رقي مسعاها وتكاملها وعملها الحقيقي لا المصطنع أو المقلد، لمحاربة مفرزات الحرب والقبح الذي يظهر في الحروب أو لقتل البشاعة، ولجعل الفرح في زمن الويلات هذا، يدور بين الناس منتشٍ بالمحبة والألفة كدرويش يدور بأجنحة الحلم في عالم تخترعه تلك الصلوات الحركية الملونة، عالم أقل قسوة وأكثر فنا وحبا وشعرا، فالصالة التي يديرها الفنان السوري “بديع جحجاح” 1973-  ويبتكر مشاريعها الفنية المختلفة والمنفتحة على عوالم سوريّة لا حدود لإبداعها، بكافة بيئاتها وألوانها وأفكارها، كان روادها في أول يوم شتائي حقيقي يتربع في العاصمة، على موعد يشعل الشغاف فعلا بين الأفئدة، خصوصا في الزمن الذي صارت فيه “عداوة الكار” هي من تحكم أبناء التيار الفني الواحد، إلا أن هذا الأمر ليس قائما في دواخل ابن البحر والزيتون “جحجاح”بعد أن عجن الحبق وجذوة التنور المتقدة، روح حلمه بسورية أجمل وأبهى كما يليق بها وبأبنائها.

موعد تأخر عشرون عاما، لكنه عندما وقع، كان وقعه كوقع الماء على الماء والحس على الحس، والنفس على النفس، حيث أقامت “ألف نون”، حفل توقيع كتاب الفنان السوري العريق “موفق مخول”مخوليات”، إلى جانب معرض للوحاته الفنية، رعته -“وزارة الثقافة”- أما الكتاب فهو من طباعة “ألف نون” التي تخطو خطوة أوسع نحو حلم سوري وطني واعد في منطقه وتفاصيله، قوامه العمل والسعي للآخر، دون مزيد بهرجة بلا معنى.

ما يدفعنا للحديث بهذا الود عن هذه التجربة الندية، تفاصيلها، حميميتها التي ضمت في ذاك المكان الكثير من رواد الفرح وأبناء الحياة والنور، فرادتها أيضا، فالتجربة القائمة على تنويط اللون بحروف ووجدانيات “مخول” في كتابه “مخوليات” كانت وليدة فكرة صافية، راودت “جحجاح” وهو يقرأ ويتابع ما يكتبه الفنان التشكيلي “موفق” على صفحته الشخصية، وفي الوقت الذي كان فيه “اللايك” عند الآخرين هو ما يناله “مخول” بعد كل نص يكتبه، كان “جحجاح” ينظر إلى تلك النصوص وكأنها لوحات مجسمة، منوعة، فيها أرواح متقاربة لكنها من جذر واحد، وهكذا جاءت الفكرة، حيث عرض “بديع” على “مخول” تحويل تلك النصوص الأليفة إلى كتاب، يُحتفى به في صالة فنون تشكيلية، ليكون الحرف واللون، هما الطاقة التي تمد المكان بالطمأنينة والرونق البهي، وفي الوقت الذي كان فيه الكاتب يحكي للزوار والصحافة عن نبل هذه التجربة، كان مدير غاليري “ألف نون” يحكي عن خلاص وقيامة سوريّة جديدة، لن نصل إليها إلا بالمحبة واللقاء على ما يجعل كل سوري جدير بهذه الجنسية “السوريون هم بطبيعتهم علمانيون بالفطرة، كل جنسيات الأرض النبيلة هي هم، وكل شبر ألفة من هذا العالم هو عالمهم” والكلام للفنان “جحجاح” الذي تحدث عن هذه التجربة الفريدة فعلا قائلا: “في اللقاء الأول الذي جمعني بالفنان موفق مخول، وبعد أن تآلفت الأرواح التواقة إلى النور ولها في الحياة مسعى متقارباً، قال لي وهو يودعني: تأخر لقائي بك عشرون عاما فقط، هذه العبارة تركت في داخلي أثرا حسيا عاليا، خصوصا وأنها صادرة عن فنان تشكيلي سوري له تجربته الطويلة في عالم اللون، هذا عدا عن أعماله الأخيرة والتي تذهب بالفن إلى الناس، معتمدا على ما تخلفه الحرب، كمادة أولية لصناعة الحياة” وحقيقة هذا المشروع الأكبر الذي أحلم بأن يكون سوريّاً شاملا، فكل لوحة فنية هي ضد البشاعة، وكل لون هو ضد الخراب وكل كلمة هي ضد الموت، ونحن في زمن أحوج ما نكون فيه، أن ندّعم ونقف بل ونحارب، حيث نستطيع أن نصنع الفارق في صدقية المعايير الفنية والإنسانية والعملية، التي يبدو أن بعض مفاهيمها قد تبدلت للأسف، هنا نريد أن نكون حيث نضع قطعة سماء في مكانها، ونزرع شجر سرو لا أفق يحد قممه، يصد الرصاص والقتل، لا حيث نكون عبئا وعائقا، نريد أن ندّعم عناصر هويتنا السورية التي نؤمن بنبل رسالتها السماوية والأرضية القائمة على المحبة أبدا”.

عانق “بديع” بعض الوافدين الجدد إلى الصالة، وكأنه يعرف كل واحد فيهم منذ ألف عام، ثم تابع قائلا “حقيقة هذا ما أشعر به تجاه أبناء هذا البلد  الذين هم أنا وروحي مفرودة في فضاءاتهم،كأنني أعرفهم جميعهم ومنذ زمن طويل، شيء سحري وفريد يجمعنا تستطيع القول أننا كما تقول فيروز ” من يوم اللي تكوّن يا وطني الموج كنا سوى” والحقيقة أن تجربة “مخول” الكتابية المتحررة من قيود الخوف والصادقة في حرارتها اليومية، وفي علاقتها مع الآخرين، دفعتني لأن أخبره عن رغبتي في جمع هذه النصوص القائمة في جوها على الصدق مع الذات والآخر، والصفاء الذهني الحاضر في الصور المنبعثة من بين تلك الكلمات، وهنا أريد أن أنوه إلى موضوع مهم، النص الفكري الموجود في الكتاب مختلف عن اللوحة التي يرسمها مخول، نص اللوحة هو حالة مختلفة بعواطف مختلفة وشحنة مختلفة، أما النص الفكري عند موفق فأشعر به وكأنه قريب من روح “جان جاك روسو” فيه حالة من الأدب النقدي الساخر، فيه دعوة إلى قيم إصلاحية نحن بحاجتها فعلا في هذا الوقت الراهن،و”ألف نون” بطبيعتها، هي جسر حواري وجدليات منفتحة على جميع أنواع الفنون والأدب، وهذا الجدل القائم اليوم بين عالم اللوحة وعالم النص، بما نحن فيه من توقيع كتاب ومعرض تشكيلي لفنان واحد، هو ليس بالضرورة نص تفكيكي للوحة، بقدر ما هو حالة تكاملية تجمع تلك اللحظات الحسية الدقيقة في جوهر الغرض أو المقصد أو المعنى،حتى لو تباينت الأدوات والأساليب، لوحة موفق في معرضه القائم إلى جانب حفل توقيع كتابه في هذا المكان الذي يعتبره الجميع كما ترى بيته ومكانه، تستطيع أن تكون حالة سوريّة تكاملية عامة، إذا فكرنا في المسؤولية الروحية التي لا ريب، سيسألنا أبناؤنا عن حقيقة دورنا فيها”مستقبلا، وعن ماذا فعلنا، عندما كانت البشاعة بكل أشكالها تنهش لحمنا وحضارتنا.

وبينما “بديع” يعمل على تعريف الجميع ببعضهم، كان الفنان “مخول” موزعا بمحبة، بين صالة العرض حيث تتكئ لوحاته بِدعة على حيطان “ألف نون” عدا عن كونه مشغولا بتوقيع كتابه، فرح به، وممتلئ بتلك الطاقة العالية من الألفة التي لمست قلبه فطار وصار عصفورا، والكتاب الذي حمل نصوصا أيضا حلق بين الأيادي التي راحت تقرأ تلك النصوص وتستعيد تفاصيل مهمة من عوالم “الماغوط” و”محمد طملية” و”عزيز نيسن” وغيرهم من كتاب الأدب الساخر، لكنها بروح “موفق” وموقفه أيضا من بشاعة الحروب وفظاعة أثرها في المجتمعات وبين الناس.

وعن هذه التجربة أخبرنا “مخول” بينما قلمه لا يهدأ ولا يكل أو يمل من نزف الحبر فوق الورقة الأولى من الكتاب: أولا أنا لا أعمل على أن أقدم نفسي أديبا أو كاتبا، لكن حقيقة نحن فنانو الشرق أو بلدان العالم الثالث، مطلوب منا أيضا بذل جهد فكري إبداعي إلى جانب عملنا الفني، ونختلف بهذا عن الفنان الغربي باعتبار علاقته مع مجتمعه أوضح، فاللوحة الفنية لدينا، ليست لون وخطوط منحنية تشكل هذا المناخ أو غيره، بقدر ماهي نتاج حواري بين الفنان نفسه وأسئلته الوجودية عن الحياة والناس والمجتمع الذي ينتمي إليه، وكيف يمكن لنتاجه الفني والفكري أن يكون له أثره الحقيقي في أوقات عصيبة كهذه، تجمع السوريين على تاريخهم وأصولهم الضاربة في عمق الحضارة الإنسانية، والمشروع الذي تحضرون ولادته اليوم، هو فهم لهذه العلاقة الوطيدة بين الكلمة واللون، وكيف يمكن لكل منهما، أن يكون له دوره الفعّال، في العمل الدؤوب، خصوصا في الأوقات العصيبة التي تمر بها الحضارات، فما بالك إن كانت سورية بعظمتها وحضارتها وإنسانيتها التي طافت العالم” هي من تمرّ بها.

وعن معنى هذا المشروع الآن قال “موفق”:

المشروع الذي نشأ بيني وبين الفنان “بديع جحجاح” هو مشروع يجب أن يجتمع عليه وعلى مبدئه الجميع اليوم، فنحن بحاجة لكل جهد خلاق ومبدع لإعادة ترميم الروح السورية التي أنهكتها الحرب، وهذا حقيقة ما أحاول أن أقوله في الكتاب، كما كنت أفعل مع اللوحات، وأعلم أن الحضارة السورية والكلمة واللون النقي، هي من سينتصر أخيرا على آلة الدمار التي لا تفرق بين سوري وآخر، لذا فهذه أمانه نحملها، أن نقول الحقيقة عندما يصمت “المنتفعون” من الصمت عنها، وأن تبقى جذورنا ضاربة بعمق هذه الأرض، وأنت تعرف أن العديد من الفنانين السوريين وللأسف، تخلوا عن هذه الرسالة، وسعوا نحو الخلاص الفردي بعد أن تنكروا للبلاد التي علمتهم جامعاتها وربت ذائقتهم عناصرها الطبيعية المذهلة وطينة أهلها المجبولة من ماء وضوء، الصمت الآن جريمة، والسكوت عن ما نتعرض له هو خيانة، ومن الواجب علينا قول كلمة الحق سواء لمن يسيء لبلده في الداخل أو الخارج، وهذه هي رسالتي في الحياة، أن أكون الوجه الآخر لهذا الوطن، حيث كل سوري هو جزء من هذا “البزل” العظيم الذي يشكل عوالمنا منذ ملايين السنين إلى أن ينتهي العالم.

تمّام علي بركات