ثقافة

“مثقّفون” أيضاً!

من المألوف أن يتحمّل أصحاب المواقف الجادّة مسؤوليّة اتّخاذها، والدفاع عنها، والترويج لها، ويتحدّثون بها، ويصيغون ما يعتقدون أنّه مناسب من كلمات وعبارات، وينشرون مقالات وكتباً، ويقيمون ندوات وحوارات، ويشاركون فيها بحماسة؛ من أجل أن يقنعوا الآخرين بها، ويحفزونهم لإتباعها.. هذا كلّه يتعلّق باقتناع الشخص بالموقف المتبنّى من قبله، وجرأته في إجهاره، ورغبته في تعميمه، واعتزازه بالانتساب إليه؛ بصرف النظر عن كنهِ الموقف ومادّته وميدانه..

أمّا حين يكون الموقف مفروضاً؛ بحكم المسؤوليّة والنسب والمصلحة المباشرة، والضغوط البيئيّة أو الاجتماعيّة وسواها، فالأمر يختلف، ويمكن أن تحسّ بنقص في الانفعال، أو عجز في التعبير المتماسك، وتقصير في السعي والإعلام والإعلان والمشاركة.. ولن تُفاجأ إذا ما علمت، بعد حين، بتغيير في الموقف، لِتَغَيُّرٍ في الظروف والريح، التي كانت تُغتنَم!

لكنّ هناك كثيرين لا يظهرون موقفاً صريحاً، ولا يعلنون آراءهم المؤيّدة أو الرافضة لِما هو مطروح أو طارئ، ويبقون صامتين، وتكون إجاباتهم معمّمة، لا تكاد تخرج منها برأي، وأقوالهم رماديّة من دون أفكار، ومشاركاتهم مشتّتة، أو يكونون منبتّين عن أي قول أو ظهور، يردّدون عبارات الإيمان الاستسلاميّة، والدعوات التي تصحّ في كلّ حين، ولكلّ موقف، ولا يكون لهم، حتّى إن تقرّيت، وبحثت، لون أو طعم أو رائحة!

ولئن كان هؤلاء يبتغون الابتعاد عن المشكلات، والسلامة حتّى من “الضربات، التي يُحتمل أن يتعرّض لها المخلّص!”، والراحة من المنغّصات المتسائلة، والتساؤلات المشكّكة، فإنّك تلاحظ أنّ هذه الراحة المرتجاة بعيدة عنهم، وأنّهم متعبون، ومرهقون؛ ولا سيّما إذا ما كانت القضيّة كبيرة، بحجم وطن، والمصير مهدّد؛ وخاصّة حين يكتبون؛ لأنّهم كتّابُ مقالات وزوايا، ومؤلّفو كتب، ويتحدّثون؛ لأنّ مهنهم تتطلّب ذلك، أو مسؤوليّاتهم الإداريّة والوظيفيّة، والمنفعة المادّيّة، تجبرهم على الظهور والقول، وإن كان ذلك ليس على نطاق واسع..

وتعجب من هذا الكاتب، أو الأديب، أو الإعلاميّ.. الذي، على مدى السنوات العجاف من عمر البلد/الأزمة، وإلى الآن، لم يتبيّنْ بَعْدُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أو هذا ما يظهر في كتاباته، أو أنّه يخجل من أن يصرّح بموقفه، وهو يتحدّث بلغة يجهد في جعلها حياديّة، ويصوغُ أفكاراً معمّمة؛ فترى في كتابته الكلام عن الشعب والوطن، والقوّات المشتبكة على الأرض، مدافعةً أو غازية، مُصالِحة أو مخرِّبة، وما يتعرّض له “الناس” من قصف وعسف وقتل وتمثيل ونزوح وظلم وعوز وبطالة وفقدان.. وتكون مقالاته باردة، على الرغم ممّا فيها من دماء ومواجع، وما دبّج من عبارات في وصف المجازر والإجرام؛ وفقيرة، مع ما يدّعيه من جرأة، وما أورد من قرارات واجتماعات وأرقام؛ وسطحيّة، بالرغم من حديثه عن وقائع وأحداث تاريخيّة، وما يورد من مؤسّسات وأسماء وشواهد؛ شواهد على ماذا؟! على ما لا يحتاج إليها؛ لأنّ الجميع يعرفونها! وتبدو كتابته بلا جدوى؛ لأنّه لا يضيء درباً، ولا يفرز قيمة مضافة، وبلا أمل؛ فهو لا يبشّر بانتهاء الأزمة، ولا يعرف كيف يتمنّى انتهاءها، سوى بافتراض عودة الوعي والإحساس بالمسؤولية… للجميع!؛ ليكفّوا عن الاقتتال ودعوة الغرباء، ويعودوا إلى لغة الحوار؛ وهي محبطة؛ من كثرة ما يتباكى على المفقودات والمفقودين بأساليب متنوّعة، ويبالغ في الوصف والتعداد والقول…

إنّك تحسّ بالعبء الذي يحمله هؤلاء؛ نتيجة عدم وضوح موقفهم في الأساس، وتشتّت أفكارهم وعواطفهم، أو عدم رغبتهم بإظهار موقف؛ لأنّ من بينهم من كان مسؤولاً زمناً طويلاً، ومنهم مَنْ ما يزال مسؤولاً، أو يخشى أن يصنَّف على طرف من دون طرف، ويمكن أن تلحظ خلفيّات عفنة، وأن تشمّ روائح كريهة؛ من خلال كلمات وتعبيرات ومصطلحات ومسمّيات مبثوثة هنا وهناك، بتذاكٍ وخبث، أو بانسراب، تمليه الانتماءات والعقائد الكامنة!

إنّ مواقف هؤلاء المثقّفين، ومن في حكمهم، مزعج؛ لأنّ من واجبهم، وهم يدلون بدلوهم، أن يحلّلوا، ويستنتجوا، وينوّروا، ويضيئوا، ويشرحوا.. لا أن يمشوا مشرعين قناديل مطفأة؛ بل يحاولون التخفيف من الرؤية، أو التشويش على المشاهد.. خجلاً حيناً، ولؤماً أحياناً! متغافلين عن أنّ هناك من يرى، ويحلّل، ويقرأ ما بين السطور، وما خلف الجُمَل المبلّلة بدمعٍ كَذِب!

إنّهم، بدلاً من أن يكون جهدهم منصبّاً على البحث عن الحقيقة -الجليّة-، والكشف عن المخفيّات، وإظهارها للناس، الذين لا يستطيعون الوصول إليها، وينتظرون مثقّفي البلد، الذين صالوا في منابره، وجالوا، تجدهم يجهدون في تمييع القضايا، وتعميم المفهومات، والأقوال، أو انتقاء ما يودّون، وتبدو كتاباتهم على كثرتها أو قلّتها، زبَداً أو طَمْياً، وبلا أيّة محصّلة أو جدوى..

إنّ في هذه الكتابات والمواقف القاتمة، تضليلاً آخر، وتعكيراً، وتعمية؛ في انتظار الوقائع -مهما كانت- تلك التي تعيد هؤلاء “المثقّفين” وأمثالهم، إلى المواقع والمصالح والمنابر، أو تبقيهم فيها؛ كأنّ شيئاً لم يكن!

ألا بئسَ ما يقولون، ويفكّرون، ويُضمرون!!

غسّان كامل ونّوس