“مازالوا يغنون”.. في المسرح القومي باللاذقية
ما زالوا يغنون ولن توقف حناجرهم بندقية, ولن يسرق الغريب صدى أصواتهم, ولن يعيث الفاسد بينهم فساده. قصيدة القضية أكبر من أن يكتبها الجبناء والوطن محمول على أكف الصامدين وفي قلوبهم التي لا تعرف الهزيمة.
قبل أن يبدأ العرض, أسدل الستار الأبيض طرحةَ عروس تودع بطلها، وكانت افتتاحية حكاية الموت الذي لا يقبله الشجعان بسهولة. أجساد واقفة بثبات، فارقتها الروح لكن العزيمة كانت أقوى من أن تفارقها، الفنانان: (خليل غصن, نبيل مريش), ورفاق السلاح حفروا قبور أعدائهم لأن الشهيد لا يدفن في قبور, له بيوتا من تراب ومساكن برائحة الجنة.
القائد الذي يقسى بيمينه على عساكره, يطبطب باليد اليسرى, يتألم قبلهم ويحمل تعبهم كي يرتاحوا قليلا، ويطيّب خاطرهم بضحكة, هكذا كان الفنان (فايز صبوح) في دور قائد المجموعة. ولكل بطل في أرض المعركة, بطلة تنتظره في البيت, أنثى تكحل عيونها بالملح كل صباح وتتجمل للانتظار المتعِب, أمٌ مضحية وهبت قطعة من كبدها (اليسار صقور) وبنت سرقت الحرب طفولتها وكبرت قبل أوانها (سارة عيسى) وأما تلك الزوجة, فلم يبق لها إلا العتم رفيقا مسليا في الفراغ المطبق الفنانة (ريم نبيعة) صرخت في وجه الغياب كفى, وحرضت روح زوجها الشهيد أن تنطق ما لم تقله من قبل في بيت لم يذق السعادة يوما.
رجال الدين كل على دينه راضيا, اتفقوا أن الله قادر أن يفهم كل منهم لأن الصلاة وإن اختلفت طقوسها فهي تطلب الرحمة والمحبة بقلب واحد ومن إله واحد الفنانان (وديع ضاهر, محمد أبو طه).
الفاسد في الأرض تماما كالقاتل, في النهاية سيقتل وسيدفِن بشاعته قبله ويتلاشى حتى يصبح مجرد خيال بلا صوت أو حركة، وكأنه ما كان أصلا, مجرد شخصية تُلعب كما لعبها الفنان (سهيل حداد).
المخرج لؤي شانا لا ينفك يخلق أشياء جديدة من قلب الأحداث, رسم الحركة على ذوقه وحرك الستارة بذكاء أكثر من مرة بمونولج (اغضب) وعلى لسان (لمى غريب) التي دعت للغضب في وجه الظلم وقذائف الموت, للثورة على الوجع ومشعلي النار, وللصراخ على الصامتين الذين لا يحركون ساكنا.
كما أدخل المخرج شانا شباب معهد القباني للفنون المسرحية في العرض ليكون لهم صوتاً حاضراً بحيوية وطاقة وصرخة تصدح مع الجوقة، لتبدو أكثر تماسكا وقوة (أشرف خضور, أحمد سليمان, عصام تفاحة, غدير جديد, قاسم عبد الحق ومهاب ديب).
ولأن العمل متكامل كقطعة واحدة, جاءت الموسيقا لتحرك جسدا رشيقا (كاتيا ديبان) مال بخصره على الوجع وأيقظ الروح من غفوتها بلمسة خضراء فأزهر وثار حتى انتفض. الديكور الذي نفذه (جبل صافون) الفنان نزار علي بدر كان أقرب إلى مشهد حقيقي, متارس رملية تكاد تنفجر وهي مصطفة فوق بعضها تراقب الرصاصة القادمة من الجهات الأربع.
وحدهم المؤمنون بالتراب لا شيء يقف في طريقهم, كل بنادق الدنيا خلف ظهورهم, ورؤوسهم تكاد تلامس الثريا شموخا, أبناء الوطن هكذا على النصر واقفون وسيغنون يوميا على خشبة المسرح القومي باللاذقية (صالة الفنان أسعد فضة) الساعة الخامسة مساء.
ندى محمود القيم