القدس آخر الدمع
أطفئوا الشموع.. كفوا عن الندب واللطم والنواح.. كفوا عن الشجب والتنديد, والتهديد والوعيد. أوقفوا كل هذا الصراخ.. كل هذا الفائض من الثرثرة من حشو الكلام, توقفوا عن التنظير والخطابة.
أنتم يا من كنتم خير أمة أخرجت للناس, لا تحصوا أعداد الشهداء في فلسطين, ولا عدد الأطفال العائدين باكراً جداً إلى رحم أمهم، الأم الأولى فلسطين أم كل العرب العاربة والعرب المستعربة والعرب البائدة, الرب في اليوم السابع استراح, فلا تعدوا علينا أيام إعلان تغيير بوصلة قدسنا الجريحة, نحن من يحصي ما تبقى لنا من دقات الفؤاد ومن بعض العمر, لا تحصوا طوابير الأطفال الباحثين عن بعض رغيف ليوم داكن الاحمرار, داكن الرماد.. عن بعض ما يشبه الماء.. عن جدار يؤجل ولو قليلاً بهجة البراءة ببعض البراءة الأولى.. ولو قليلاً.. لا تحصوا قوافل الأطفال الذاهبين إلى الموت المجاني بلا ذنوب ولا خطايا, فقط لأنهم فلسطينيون.. فقط لأنهم يحلمون بعلم يرفرف شامخاً في سماء القدس, سماء وطن معذب ومتعب.. لكنه شامخ أبداً. الأطفال الذين يذهبون إلى موت موحش وحزين. فقط لأنهم يحلمون بحمام زاجل يحمل بعض رسائل الحنين من الغيّاب المرغمين على كل هذا الترحال يحلمون بسرير فيه قليل من الدفء، وبعض الحياة. إلى أي ساقية.. إلى أي ينبوع تذهب قبيلة الدموع, دموع الأمهات؟
إلى أين تمضي آهات الرجال الطاعنين في قهر الانتظار المر عن حنظل السؤال؟ ليس القتلة وحدهم من يقدم الترياق للسؤال. بل شركاء القتلة. أولئك الذين يتباهون برفرفة أعلام القتلة في قلوبهم الصدئة العفنة التي هي موطن للجيف, القتلة الذين يريدون اغتيال عاصمة بلد بحجم الروح، وطن اسمه فلسطين, بيارة بحجم كوكب لم يكتشف بعد.
القتلة الذين هيؤوا شاهدات وبيداء بعيدة من مقابر لجيل فلسطيني يعرف كيف (يدوزن) وجع الحجر، من قاد القتلة ذات مساء شاحب وحزين بعد العشاء الأخير إلى حيث سكنى الروح– أقصد السيد المسيح – الذي اغتال القتلة فضاء روحه قبل أن يينع غصن زيتونه سلاماً على الأرض وماء العيون, وما تبقى من أمل, وما تبقى من حسبي الله وهو نعم الوكيل ومن لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
لا تسألوا القتلة أسالوا شركاؤهم, سيقولون لكم إلى أين هم ماضون.. إلى أي الجهات ذاهبون؟ وأنتم يا شركاء القتلة ما عليكم إلا أن تنتظروا موتكم الذي تأجل كثيراً لتواجهها مراياكم أقصد قبوركم – بوجوه مضرجة بيقين البراءة التي اغتلتموها علانية, بوزر اللواتي كن سيذهبن كثيراً إلى أحمر التفاح, بخطيئة الليمون يزهر في شرفة الحياة, بإثم سنونوة قادها الحنين إلى رئتها اليسرى فاستشهدت بيمين يقينها.
ويا أهل فلسطين يا أهلي, أنا أحمد العربي, أنا أحمد السوري, مليون أحمد سوري يقدمون الروح وما يملكون من العمر قرباناً للقدس الروح والقلب ولآخر الدمع.
لشركاء القتلة أذكرهم بما قاله الفلسطيني الجميل محمود درويش: “سقط القناع عن القناع/ لا إخوة لك يا أخي/لا أصدقاء يا صديقي ولا قلاع /لا الماء عندك/ ولا السماء ولا الدماء ولا الشوارع/ ولا الأمام ولا الوراء/ حاصر حصارك لا مفر/ ذهب الذين تحبهم/ فإما أن تكون أو لا تكون/ سقط القناع .عن القناع/ عرب أطاعوا رومهم.. عرب وباعوا روحهم.. عرب وضاعوا/.. نعسنا أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا.. أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا.”. وأسأل لو كان شاعرنا الكبير محمود درويش بيننا ويرى ما يجري الآن من كل هذا العهر وموت النخوة والضمير, أية جدارية كانت ستكفيه ..؟ وأية ملاحم كان سيرثينا بها.
ولو كانت سميرة عزام – أميرة القصة القصيرة الفلسطينية– التي حين قادها الحنين ذات مرة إلى أمها فلسطين, وبينما هي تقود سيارتها ذاهبة إلى الوطن على الحدود الفلسطينية توقف قلب سميرة عزام عن الحياة تماماً, وماتت خلف مقود سيارتها..؟ ربما تلطف الله بقلب سميرة حين أخذ قلبها قبل أن يرى كوارث هذا الزمان العربي الرديء.. ولو كان ناجي العلي أي حنظلة كان سيدير وجهه إلينا, لنرى أين ستكون وجوه مزوري التاريخ, ومغتصبي طفولته, ولو كان غسان كنفاني هل كانت ملحمة روائية تكفيه ليقول مايقول، وغيره من شعراء وأدباء فلسطين. عن أي جنون كانوا سيهيلون المزيد من السخام فوق رؤوس القتلة وشركائهم الجبناء؟ يا أبناء فلسطين, يا أبناء القدس الصامدين, في وجه هذا الزمان المر كمرارة أيامنا. كوجعنا العربي. كجرحنا العربي, في انتصاركم يكمن خلاصنا, وإعادة لبعض الكرامة العربية المهدورة.
أحمد عساف