ثقافة

عن النص.. والنصوصية

من النافل القول وفي حقل الدراسات النقدية أن مفهوم النص قد أصبح اليوم أكثر انفتاحاً من محاولات تقعيده، سواء للدلالة المنتظرة وتوسيع أفقها، أو لجهة متغيرات القارئ والقراءة في راهننا الإبداعي، وإذا كنا نستبطن هنا الإشارة ولو عابرة للنص المفتوح،والنص المغلق، وحجاجهما النقدي في مدونات كبار النقاد في العالمين العربي والغربي, من خلال ما كتبه السيميائي الروائي المعروف أمبرتو إيكو، وسواه من النقاد العرب الذين ضايفوا المصطلح باجتهادات بحثية من أمثال الناقد العربي صلاح فضل، ذلك أن النص المفتوح بات هو الممكن في ضوء أغراض الكتابة وسعة تقاناتها، وأكثر من ذلك هو الذي يمكن من الامتثال للاختراق والتجاوز أكثر منه من النص المستقر والمألوف، والذي لا يستدعي معه أيما أفق للتأويل، فهل نحن على أبواب ما نصطلح عليه بـ شعرية التأويل والذهاب أبعد مما يعنيه النص المخترق، وبجمالياته اللامحدودة التي تشكل المعنى تشكيلاً جمعياً لا فردياً فحسب، فضلاً عن أن التأويل بحد ذاته شراكة في القراءة وإنتاج لمعنى لا يتبدد، بل تأخذه الذائقة إلى تخوم وأمداء قصية، لأن الجماليات المنتظرة اليوم أو المنشودة والمحلوم بها، هي جماليات الاختراق تماماً، وبالمعنى الذي تتجه إليه قصديات النص لا قصديات المبدع فقط، ولأن النص ليس منجزاً فردياً بل هو منجز جمعي بحسب نظرية المعرفة، إلا أن (الفرد) المبدع هو من يضع توقيعه الأخير عليه، كما قال ذلك يوماً الشاعر الراحل نزار قباني.
وليس من التندر القول تأسيساً واستئنافاً (هل غادر النقاد من متردم)، وهذا يعيدنا إلى جدلية السابق واللاحق والتي أُشبعت إلى حد ما نقوداً وتمحيصاً، وأكثر من ذلك كيف يمكن لنا أن نتساءل حول فيض الشعريات وليس الشعر فحسب، في مشهدنا الشعري على سبيل المثال، هل نجزم بإعادة إنتاج اللحظة الشعرية وبالمعنى المعرفي حتى نأخذ ذلك (الفيض) على محمل الدراسة من جديد لا وقوفاً عند ارتدادات لحظة ما بعينها وانخطافات إلى ما يليها.
لقد فاض النص ليصبح في مدار نصوصية أوسع جعلت من الشعر أكثر من خطاب، وأصبح الشاعر صوت اللحظة وبتعدد الأصوات نذهب إلى لحظتنا الشعرية لنتأملها في مرايا اللغة وتحولاتها ومدى ما تعكسه على الذائقة وما يتصادى بها في الوجدان السوري الجمعي، بل توظيف اللغة لتكون حاملاً جمالياً أكثر منه تشكيلاً في الكلام، ويُحسب لكثافة هذه الأصوات الشعرية أن ثمة فيها ما يرهص بالشعر، ذلك الصوت الأعلى للذات الشاعرة ومحاولاتها في الصوغ الجمالي القادر على استنهاض فكر الشعر، وإحياء تقاليد شعرية جديدة لا تبخس رهان المتلقي عليها، بل تضاعفه على نحو أو آخر.
فمشهدنا الشعري اليوم بات أكثر إلحاحاً لاستدعاء أسئلة النوع، وأسئلة اللغة الثرية التي تظل هاجس الخطاب النقدي، ليتكاملا معاً نحو قيمة معرفية لا بد منها وسط احتدام اللحظة وتواتر نقائضها، لكن الشاعر الشاعر من ينهض رائياً لما بعدها، فمن الدم تولد زهرة الأمل، زهرة تولد ولا تتكرر لتشي بأزمنتها القادمة وبفوحها العابر للورود، ليس ذلك محض شعرية مجاز هنا، بل تداول لكلمات كثيفة خط بها الشعراء سطورهم أملاً بما تسفر عنه أوجاعهم القصوى، فهم شهود اللحظة، والمنتظر منهم أن يكونوا (عرابي الجمال) ليكون الجمال بالاختلاف والتنوع، وبنقاء الصوت..  بخلاصته الأثيرة من أنه صوت جمعي يجترحه الفرد بفرادته الأسلوبية، فالنصوصية هنا لا حيازة مصطلح بعينه، بقدر ما تكون انفتاحاً دلالياً في المعنى والسياق والكلمة بذاتها، الشعر أمُّ الإبداع برمته تلك هي المسألة التي تحوز شرف السجال ولو لوقت غير قصير.

أحمد علي هلال