من دمشق هنا القدس
أحمد علي هلال
لعواصم القلب جدليتها الأثيرة، ليس محض انتماء جغرافي يحدد مسارات التاريخ فحسب، بل هي أقانيم المقاومة حينما تتعدد في الزمن المختلف، زمن يطل فيه التاريخ على ما يريد، وما نريد، لعلك ستجد في هذه الثنائية ما يفوق لغة الامتداح ويتجاوزها إلى جسد واحد مسكون بقلبين هكذا أوحى الياسمين المضرج بفتنة البياض، لزيتونة هناك مضرجة بالنور، فكم لبثتا في الغناء –دمشق والقدس- وصهل في أوردتهما عطر المسافات إكسيراً للحنين وفضته في ظلال الدروب العتيقة، سماءً فوق البيوت الغافية بأحلامها، وعقارب الزمن تضبط الإيقاع على رخام الوقت، وكم لبثنا في المقاومة.. كان حديث طائرين مدا نهاريهما، بين مئذنة الأموي ومئذنة الأقصى، وصارت الظلال المضيئة نهراً من الياسمين يفيض في حواري القدس من الأرض التي بورك حولها، لا مسافة للشعر حينما يضغط زناد القلب ويطلق عطر المواويل والتراتيل المطرزة على ثوب صوفي عتيق.
كان اللوح المحفوظ الكثيف بالمعنى يقرب العواصم ويتقرى فيها خطوط اليدين كي يجاورا كل الأيادي، وكم أخذنا كتابهما بقوة النداء، كتاب عرائس المدائن البليغة الصحو والحضور، ففي دمشق يدوّن التاريخ بلاغةً حارسةً للأزمنة والأمكنة وعلى أسوارها يَسّاقط الغزاة كذبةً كذبة، ويظل الياسمين مبتدأ الحكاية في تواتر فصولها، بأن للشمس كثير من أسمائها الحسنى، وفي القدس العتيقة يعرف المقدسيون تلك النكهة الأبدية، هي خلطة الروح التي تجوهرها النار، ومزيج الأسماء ليظل المكان عامراً بهم، وفي دروب النبض يحدثك الارتعاش: قد لبثنا في الحنين عدد ما وسعته حيوات عبرت وظلت كوشم الروح، حيوات قاومت كل غزاتها وعبرت إلى البهاء ليصبح النبض في الأرض أكثر من غضب وأقوى من شرارة تديم النار جيلاً فجيلاً. أي تناظر خفي بين القدس ودمشق، وما بينهما درب من مروا إلى السماء ليتمم الإسراء بلاغة الصعود، لنجمة هناك واصلت ضوءها فوق أرض الشهداء والشهود، ولأختها قالت القدس: لجرحك فيَّ أنهار تسيل، ولجرحي ما يتصادى في قصائد الأرض أنهاراً تسيل، لا حدَّ لضفافها، وعلى ضفتيها وردة الأمل تطاول الزمان، وتكتحل بالغيم وتبوح بدمعها أمطاراً، لكنها ذات حلم نثرت نجومها لتضيء بالجرح حكايات لا تُعاد، لمن ظلوا في الأرض مقاومين حدَّ انتشاء اللغة، واكتمال هوية. نجمتان على الأرض، ولا تكف الأرض عن الدوران، وللزمان مشيئته حينما نقوم كلتانا ونستوي على جودي الأزمنة، يا لعطر الأمكنة كيف مرت بها أرواح قامت هناك بمقامها الجديد، ويا للنشيد الوطني كيف رتبته أصابع الشهداء، وظل الشهود يرددون: موطني.. ويتكاثف حبر النشيد ليصبح أقداراً تجترح الحياة، وهي من تقرّت كل نارها الكامنة.. تلك صورنا فمن يرتل العشق بقلبه ووجده لنُريَ الحياة كم تستمر، لأنها أرواحنا العالية بسبع من الدهشة وفوقها ألق المعراج للصحو ولحرير اللغة كيف تنسجه الأصابع برداً وسلاماً فوق البيوت، وفي الدروب التي حفظت خُطاها.. ذات حلم، ذات نهار وأكثر، وأنت الشاهدة على القيامة من مدت لي يدك ومسحت دمعة الروح عن تخومي، قد نهضنا سويا كي تكتمل الحكاية بألف نهار قادم، من طفولات القلب إلى مجد الطاعنين في الحلم، بهيان في الحلم نحن، وفي الحضور الأخير وفي التجلي الأخير لخريطة الروح، يا دمشق.. هذا الاسم لي لأُعلن امتداد أزمنتي بفقه المقاوم، وأبجدية النور، يا لسلام الأبدية حينما نكسر ظلال (العدل الشريد)، ونظل خفقاً في الذاكرة وفي الصدور، ولتكون شارة النصر أبداً دمشق والقدس، توءما روح وحرفان خطَّ بهما التاريخ أبجديته الأولى.. ولم تُرفع الأقلام والصحائف لم تجف.