ثقافة

ناظم مهنّا: أنا قاصّ حداثوي..أكتبُ أشلاء أحداث

حين قرأتُ الإصدارات الحديثة القديمة للأديب القاصّ ناظم مهنّا والتي تضمّ أغلب أعماله القصصيّة منذ الثمانينيّات وحتى الآن، تحت عنوان “الأرض القديمة” وقصص أخرى، من منشورات الهيئة السورية للكتاب عام 2017م، وقعتُ بمأزقٍ لا فكِاك منه، فكلّ مجموعة من المحتوى تستحقّ دراسة مستفيضة لوحدها، لما تتوافر عليه من ثراء وإضافة وهموم إبداعيّة لا تركن إلى القارّ، ولا تنام على حرير المُنجز. وبما أنّ مساحة النّشر في جريدة يوميّة لا تسمح بذلك فسأكتفي بتسجيلِ انطباعاتي العامّة كقارئ متذوّق، حاول رصد بعض مزايا القصّ في تجربة الكاتب.

الغريب أنّكَ كلّما تغلغلتَ في حنايا السّرد الممتدّ على أكثر من 470 صفحة من القطع الكبير، أحسستَ بفراغ كبير يدوّم في رأسك، إذ سرعان ما تتجلّى لكَ روح الكاتب بقلقها اليانع وتوقها المفطور على الاختلاف والرغبة في كسر النّمطيّات، هي لا تطمئنّ لليقينيّات، ولا للقواعد الصّارمة التي تحكم هذا الفنّ الأدبي. مهجوسة بسؤالٍ دائم هو: ألم توضع القواعد لتنقضَ؟!. ولعلّي لا أبالغ بالقول أنّ المتن السّرديّ بمجمله ينتصر للجانب الفنّي الجمالي أكثر منه للمحمول الأيديولوجي أو الاجتماعي، وهذا ليس حكم قيمة بالضّرورة. في اعتقادي إنّ وفرة الجماليّة السّرديّة لا تعني دوماً الجدّة في الطّرح، فالتّجارب القصصيّة كجنسٍ أدبي تخضع للنّمو كغيرها من الفنون ضمن صيرورة تطوّر أنطولوجي عامّ أوّلا، وخاصّ بتجربة المبدع الشّخصيّة ثانياً، ممّا يُنتج فعلاً إبداعيّاً لا يكتفي بمسّ القشرة، أو خدشها وحسب، بل الشّغل على اللّبّ والجوهر.

تجربة أديبنا “مهنّا”  تقترن بهذا الفعل الدّينامي، فهو لم يرتهن لمقولة “لايبنتز” بأنّه “ليس بالإمكان أفضل ممّا كان” بل برهنَ من خلال نِتاجه المتطوّر في زمن التشوّش والفوضى، أنّ بإمكان القصّة أن تتغذّى دوماً بالنّسغ الجمالي والدّلالي الجديدين شكلاُ ومضموناً، فلا خواتيم محتومة لديه، والأحداث قد تأخذ ذُرى هرميّة متوالية، وقد تتزرّر في تفاصيل النّصّ وتذوب إلى نهاياتها المفتوحة. التّجريب عنوانه دوماً، مع ما يتطلّبه هذا الفعل من تخريب للنّمطيّة القصصيّة التقليدية الدّارجة، ثمّ من قال بأنّ التّخريب والخلخلة للمألوف ليسا من ضرورات النِّتاج المختلف والجديد؟ّ!.

لم تعد القواعد الحكائيّة الـ “موباسانيّة” المستندة بدورها على التّأسيس “الأرسطيّ” وحدها من يحدّد قواعد اللّعبة القصصيّة، فالقواعد عند ناظم مهنّا تنتمي إلى النّمط الحداثوي عموماً، حيث الفكرة تسيطر على المتن السّردي من البداية وحتى النّهاية وقد تكون غير ظاهرة الحدث وبنهاية قائمة على تعدّد الاحتمالات، مع تداخل في الأزمنة، ورمزيّة عالية تستثمر العنصر الميثولوجي في تطعيم الحدث الواقعي وتفخّخه بمسافة ناقدة لينتج حالة تخيّيلية عالية النّكهة. حالة تضطّرك أحياناً لما يمكن تسميته بتعليق القراءة التي كثيراً ما نواجهها في تلاوة الشّعر الحقيقيّ. هي تلك الوقفة الضروريّة للهضم والتمعّن في داليّة المقروء وقد وهبتكَ عنبها للتّو. ثمّ ذاك الكسر لأفقيّة السّرد أثناء تشييد البناء الحكائي زمناً وموضوعاً الذي يمكننا تسميته بـ “ذاتيّة التّجريب” حيث الرّؤى المتولّدة من تجارب الحياة الأيديولوجية وتراكماتها القرائية وهاجس التّجاوز الدائم والنقد المستمر للتجربة، كلّ ذلك يؤسّس لديناميكية الخلخلة المقصودة المستندة بدورها إلى خلفيّةٍ ترى في القصّ فعلاً ثقافيّاً معرفيّاً يفترضه النصّ التّجريبي السّاعي لإنتاج خطابٍ مغاير من خلال بحثه الدؤوب عن تقنيّة ولغة ورؤية للذّات والآخر مختلفة، متنطّعاً لمهمّة الكشف عن فضاءات جديدة ما تزال بكراً، لم تحوشها أو تعكّر صفاءها الذّائقة النّمطيّة، لكن هذه الذّاتية لا تعني التّقوقع والاطمئنان للمنتج الشّخصي، بل هي حالة من الاختمار والاختبار للوعي الجمعي في روح الفرد المبدع. بل هي ذاتيّة الإبداع الإنساني. أدواتُ ناظم مهنّا القصصيّة تشي بكلّ ذلك فهي تحرث تربة مسرودها بتأنٍّ دؤوب، استعداداً لرشّ البذار المختلفة، لتتجلّى  كتابيّاً، مشهديّة الحياة المرئيّة لديه، أشبه بـ “اسكتشات” ومقتطفات لا ولن تكتمل طالما أنّ هاجسها الحركة والتّوالد وديدنها التجدّد والبحث المستمرّين.

انطلاقاً ممّا قاله الرّوائي الشّهير “همنغواي “حول فكرة التّوالد وعدم القدرة على خروج المرء من جلده بقوله: “عندما تكتب تكون مقيّداً بما كتُب بشكلٍ جيّد من قبل” فهذا يعني تناسل النّصوص وتناصّها مع بعضها من جهة ولكن من جهة أخرى يجب رؤية المنجز الجديد بمنظار العين الثالثة وهي تتأمّل فيما تمّ إنجازه لتؤسّس عليه عمارتها الجديدة. ولكن إذا كانت فكرة التّجريب محاطة بكل هذه الألغام من التّجهيل والفوضى والشّواش المحيط فإنّها قد تودي إلى ما يشبه العماء، وتبقى الحالة الإبداعية بحدّ ذاتها التي تناضل بكلّ قوة لتحوز على مكانتها في بيئة ترفضها تماماً كشأن كلّ جديد هي البوصلة والمعياريّة هنا. فـ “القصّة القصيرة بلغة “وليم فوكنر” أكثر الأشكال الأدبيّة صعوبة بعد الشعر” والتّجديد لا يأتي من فراغ بل من خلفيّة فكريّة وجماليّة واعية لفعلِ الابتكار، وإلّا فالتّأسيس سيُشاد في الفراغ. بينما البناء القصصي في التّجارب الجدّية الحقيقيّة يسعى إلى إيجاد التّكامل بين طرفيّ معادلة “الفنّي والدّلالي”. ورؤية الكاتب النّاضجة والمثقفة الأدوات هنا، هي الحكم والموجّه للموضوع لا العكس. شرط عدم السّقوط في الذّاتيّة المفرطة حيث تتضخّم الأنا السّاردة العالمة بكلّ شيء وتحيط بكلّ عوالم الفعل السردي. وهذا قد يسقط السّارد بما يُشبه الخواطر غير المتبلورة، أو التّأمّلات التجريديّة الضبابيّة التي قد لا يحكمها ضابط، حيث تغيب حينها مسألة التّجنيس الأدبي وتميع، لنجد أنفسنا أمام متاهة لغويّة وثرثرة قد لا تُفضي إلى شيء. بينما مهمّة الكاتب ومسؤوليّته الحقيقيّة تكمنُ في تعميق وعي ومعرفة القارئ بجماليّات الجنس الأدبي الذي يقرأه لا أن يزيده عماءً. انطلاقاً من رؤية تقول بأنّ التّجريب والتّقويض والرّفض للمألوف والمتعارف عليه يجب أن يجري ضمن الجنس الأدبي نفسه وإلّا قد يفضي بنا الأمر إلى اللّا أفق. وها نحن سنحاول تلخيص بعض تلك الاقتراحات السّرديّة برأينا، في منجز القاص “مهنّا” والتي تجلّتْ في ميله إلى اللّغة الثقافيّة التي تبرز حضور المثقف المبدع ودوره في تأسيس وعي قرائي يرى في الأدب مع اختلاف أجناسه  فعلاً ثقافيّاً بالدرجة الأولى، وبنفس الوقت يتلافى الوقوع في مطبّ اللغة المنحوتة المقعّرة. كما نرى شاعريّة الأسلوب بارزة بجلاء وتقطر نداوةً من أغصان النّصوص. ولا عجب بذلك، فالسّبب أوضحه الأديب في أحد حواراته قائلاً: “أنا أنحدر من ثقافة شعريّة، يكاد الشّعر فيها أن يكون مقدّساً” وهذا يعكس كثافة سرديّة رمزيّة  مشبعة بالّلغة الاستعاريّة المجنّحة حيث تتوالد الدّوال بثراء لتلحق بها المدلولات لاهثةً ممّا يقرّبها أحياناً من خطر الوقوع في الشّرود الدّلالي. وتأتي ميزة أخرى هي “المنتَجةُ” للقصّ أو التقطيع السردي المعنون والموظّف ضمن سياق رمزي عال، حيث تتشذّر الدلالة وتتوه ضمن التّفاصيل المسرودة مستفيدة من تقنيّات وفضاءات الفنون البصريّة والسّينمائية والمسرحيّة الأخرى ضمن عوالمَ تقوم على خلق المفارقات والدّهشة وقد تخلّلتها التّقاطعات المتناغمة بين مستويين سرديّين لافتين/ الفانتازي والواقعي، العقلاني والميثولوجي، التراجيدي والكوميدي/ وقد وصم البعض الكاتب بأنّه ينتمي إلى السّلالة البورخيسيّة من حيث الأسلوب الإيهامي التاريخي والغوص في الرّمزيّة والأسطرة والسرد الأشبه بمتاهة. ولا يجد الكاتب بذلك تهمة، بل ميزة يؤكّدها بقوله: “يوجد اليوم شبه إجماع على مكانته المرموقة، كنت قبل أن أعثر على بورخيس معجب للغاية بإدغار آلن بو، وهو أيضاً من السلالة الملعونة ذاتها”، ممّا قد يزرّر النصّ السّردي ويشظّيه إلى قطع متناثرة يصعب أحياناً إيجاد ركائز تمفصلها وارتباطها في معادلة الجزء والكلّ، حيث يلهث القارئ جاهداً للملمة أطراف المشهد ولكن هيهات. النصّ السردي لدى الأديب ناظم مهنا يحقّق المواصفات النّموذجيّة المتعارف عليها من حيث الطّول، وهو شكل لا يقترحه دوماً للقصّ، بل يطرحه كاحتمال من احتمالاته وحسب. لقد كتب ما درجَ على تسميته بالقصّة القصيرة جدّاً، وكذلك كتب النّص الأطول نسبيّاً، واعياً تماماً كمثقّف وقارئ نهم ومجرّب متنوّع الأدوات والأساليب ـ  لمجمل تعاريف فنّ القصة التي قد تحتمل مسافات كمّيّة سردية كبيرة تصل إلى العشرة آلاف كلمة وقد لا تتعدّى السّطر أحياناً. ومن ضمن آليّات الكتابة لدى القاص نجد سمة واضحة وهي الكتابة الحلميّة حيث الحلم ليس انعكاساً للمكبوت والضّبابي بلغة فرويد وإنّما هو آليّة لتحقيق الممكن والمطموح به عبر نشاط ذهني صاحٍ يبدو لنا بأنّه يأتي من اللّاوعي، بينما هو يأتي من آليّات فيزيائية مختلفة واعية ولكن غير مألوفة حيث الحلم لدى “فروم” هو القدرة على إنجاز المفكّر به عبر شكلٍ غير تقليدي يبدو للمفسر التقليدي بأنه أشبه بالوحي. هذا الأسلوب الماكر يستقدم عناصر الواقع على غفلة ويوظّفها بدهاءٍ أدبي عالي الدلالة، ثمّ  تأتي ميزة تأطير الأحداث أحياناً بأماكن وفضاءات هامشية منبوشة من ثنايا الذّاكرة “القرية” وعوالم الطفولة، وهو الذي يعيش في فضاءات المدينة وذلك بما يناسب تنظيرات “ما بعد الحداثة” فراراً من معنى المكان الأنطولوجي أو الفيزيائي الجغرافي إلى المكان الشّخصي والنّفسي الذي قد لا تتعدى مساحته أبعاد  القفص الصدري للكاتب.

في النهاية سأختتم بعبارة لأحد أبطال القاصّ حين يقول: “أنا قاصّ حداثوي، أكتب أشلاء أحداث، انعدام مركزية” وقد قال الكاتب معلّقاً على ذلك المقبوس: “الجملة المذكورة تلامس جانباً قلقاً من فهمي للكتابة، ولكنّها لا تلخّصني”. ومن جهتي أرى بأنّ  الكتابة لدى الأديب “ناظم مهنا” هي نوع من المغامرة والمتعة السرديّة عبر الخوض في متاهات أو ألعاب أدبيّة بحسّ عالٍ بالمسؤوليّة والوعي للدّور الثقافي والفنّي والمعرفيّ لوظيفة الأدب عموماً، قصص تنبني وتتشكّل من خلال سردها لنصّها وثقتها بالقراءة التفاعليّة من قبل الآخر التي تردم ثغرات النّصّ وتعيد إنتاجه من جديد، وإذ هي تكتبه تتوالد من ذاتها في اقتراحات دائمة لا تستكين لشكلٍ إلّا لتقوّضه فيما بعد، تخلخل المألوف والقارّ كسعي للتّكامل مع نقصها الدائم، الذي يكسبها الجدّة والفراغات اللّاهثة لاكتمالٍ لن يكون، وهل ثمّة اكتمال في الوجود؟!.

أوس أحمد أسعد