ميكيس ثيودوراكيس: قائد أوركسترا و.. مقاومة
أدر الأذن الصمّاء عن ضجيج العالم، واسمع الموسيقى الآتية من هناك، من بلاد الإغريق التي أعطت الفلسفة والحكمة والأساطير القديمة. هناك على أحد الشواطئ اليونانيّة، يرقص أنطوني كوين رقصته الشّهيرة في فيلم زوربا، المأخوذ عن رواية “زوربا” للكاتب نيكوس كازانتزاكيس وإخراج مايكل كوكيانس، وعلى إيقاع موسيقى ميكيس ثيودوراكيس الذي رحل الأربعاء 3 كانون الثاني/يناير 2018 وله فيلم آخر هو “سيربيكو”.
دُفِن حياً مرّتين
ميكيس ثيودوراكيس، واحد من أكبر موسيقيي القرن العشرين. له تاريخ طويل في العمل السياسي والنّضالي، ومساند للقضايا الإنسانيّة. ثائر يطمح لتحقيق العدالة والاستقلال لبلده.
في عمر الثّامنة عشرة، في الـ 1943 وبعد أن شكّل فرقة موسيقيّة وهو في ال17 من عمره وقدّم أوّل عمل موسيقي، إنتقل إلى أثينا وأصبح عضواً في الوحدة الاحتياطيّة لجيش التّحرير الشّعبي اليوناني، وقاد حملة للقتال ضدّ بريطانيا واليمين اليوناني في ديكيمفريانا. اعتقل خلال الحرب الأهليّة وتمّ نفيه لجزيرة إيكاريا ثم نقل إلى جزيرة ماكرونيوس، حيث تمّ تعذيبه ودُفن حيّاً مرّتين.
مٌنِعَت موسيقاه والعقاب لمن توجد بحوزته
يقف الموسيقار ثيودوراكيس على خشبة المسرح ويقود الفرقة الموسيقيّة بأعصابه وأحاسيسه ولمعات روحه، يعطي ظهره للجمهور مركّزاً مع النّغمات التي تحطّ وتطير وتنتفض، لا يلتفت إلا للتحيّة.
بعد أن ثار بموسيقاه، لن يقف على حياد، حين يكون واقعه على الأرض يتطلّب حركة مقاومة وثورة؟ ميكيس ثيودوراكيس، وكما قاد فرقته الموسيقيّة كفنّان موهوب، كان زعيم حركة مقاومة الفاشيّة، وانخرط في صفوف المقاومة ضدّ القوّات المحتلّة في الحرب العالميّة الثّانية. كما قاد حركة المقاومة أيّام حكم الطّغمة العسكريّة، التي وصلت إلى الحكم في اليونان حين أطيح بالملك قسطنطين عام 1967 عن طريق الانقلاب العسكري.
حورب في ذلك الوقت، وصدر بحقّه قرار عسكري يَمنع تداول موسيقاه، أو بَثّها في الإذاعة أو بيعها، وحتى معاقبة من توجد بحوزته.
زُجّ الموسيقار ثيودوراكيس في سجن (معسكر أوروبوس) وتمكنت لاحقاً الحركة الدوليّة المتضامنة معه، والمؤلّفة من الموسيقار الروسي ديمتري شوستاكوفيتش، والكاتب آرثر ميلر وهاري بيلافونتي، من إطلاق سراحه، على أن يُسْتَبدل الحكم بالنّفي إلى خارج وطنه اليونان عام 1970.
عمل ثيودوراكيس في منفاه على توحيد قوى المقاومة، ومن خلال موسيقاه وصل إلى العالميّة وأقام الحفلات في جميع أنحاء العالم من أجل الديمقراطيّة في بلده اليونان ومن أجل مكافحة الديكتاتوريّة.
في المنفى يلتقي بثوّار وشخصيّات مؤثّرة، وإسرائيل أصل الشّر
نال ثيودوراكيس العديد من الجوائز في العالم، وتقديراً للجهود التي بذلها لخدمة وطنه في المجال الإبداعي، وتعزيز الوعي الوطني لدى الإنسان، حاز على جائزة القدّيس أندراوس الأوّل الدوليّة، وقد مُنِحَت هذه الجائزة لشخصيّات عالميّة معروفة كرئيس الكنيسة الأرثوذوكسيّة الروسيّة ألكسي الثّاني، والمدير العام لمنظّمة اليونيسكو كوتشيروماتسورا، والرئيس الإيراني محمد خاتمي، كما حاز على جوائز قيّمة أخرى.
لم يكن المنفى بالنّسبة للموسيقي اليوناني، سوى أفق جديد وفرصة للتعرّف على شخصيّات عالميّة، فإلى جانب التقائه بالشّاعر التشيلي والنّاشط السياسي بابلو نيرودا، إلتقى بشخصيّات سياسيّة مؤثّرة كالرئيس المصري جمال عبد الناصر، والماريشال تيتو رئيس المقاومة اليوغوسلافيّة، والقائد الفلسطيني ياسر عرفات الذي التقى به في مناسبات عدّة وطلب منه الأخير أن يعمل على توزيع النّشيد الفلسطيني، وهذا ما حصل لاحقاً.
وظهر الموسيقي اليوناني العالمي بمناسبات عديدة، على المسرح وهو يرتدي الكوفيّة الفلسطينيّة، مناصراً الشعب الفلسطيني، كما أنه في إحدى المناسبات وصف إسرائيل، بأنّها أصل الشرّ.
نضال في السياسة والفن
السياسة بالنّسبة للموسيقي ميكيس ثيودوراكيس، هي أساس في حياته، كما كانت الموسيقى. الإثنان لم يعتبرهما ترفاً بل كانتا أساساً لوجوده وتركيبة شخصيّته. يناضل في السياسة، ويجد الوقت لدراسة الموسيقى، ومن ثم تأسيس أوركسترا، وتأليف السمفونيّات والأغاني (أكثر من 1000 أغنية) وعروض الباليه، وموسيقى الأفلام التي جعلها من ركائز الفيلم وليست ثانويّة.
تجد انتمائه الوطني بالكثير من أغانيه التي جاء بكلماتها من الشعر اليوناني القديم وأخذ من شعر “يانيس ريتسوس” واستخدم في عمله “السمفونيّة الأولى”، آلات موسيقيّة يونانيّة تقليديّة، مقاييس بيزنطيّة عوضاً عن الغربيّة، وأعاد للموسيقى اليونانيّة أصالتها.
من تلك الأغنيات، أغنية بعنوان “إيبيتافيوس”. ومن ثورته الثّقافيّة، وبعد اغتيال أحد الزّعماء الثوريين وهو الطّبيب غريغوريس لامبراكيس، أسس ثيودوراكيس حركة الشّبيبة الديمقراطيّة التي أخذت اسم “لامبراكيس”، ونجحوا في تأسيس نحو 200 مركز ثقافي على امتداد أرجاء اليونان، وعلى إثره تمّ إنتاج شريط سينمائي مستوحى من حادثة إغتيال الطبيب، وحمل اسم “زد” إخراج اليوناني كوستا غافراس، شارك في البطولة الممثّل الفرنسي إيف مونتون واليونانيّة إيرين باباس.
والجدير ذكره أن التّمويل كان جزائرياً فرنسياً. كانت حياة هذا الموسيقي العالمي غنيّة ما بين النّضال السياسي والفنّي.
بوش هتلر جديد، والفن هو المؤثّر إن أُتيحَتْ الفرصة
من جملة القضايا التي رفع لوائها ثيودوراكيس وحارب من أجلها، قضايا إنسانيّة وبيئيّة وناصر المظلومين في العالم. كما وقف ضد الحرب الأميركيّة على العراق، واعتبر الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، هتلر جديد، ومجرّد مسيّر لمصنع الموت العملاق، وقد أفلح خلال عامين في تحويل العراق إلى أنقاض، مقدّماً لجنوده لذّة الغريزة البدائيّة وهي الجانب المتوحّش لديهم.
اعتبر ثيودوراكيس، أن على الشعب العراقي الاعتماد على قدراته الذّاتيّة، حيث من خلال التخطيط والتّنظيم، سيتمكّنوا من المقاومة حتى النّصر. ربما بدأ يتحقّق ما توقّعه بالنسبة للعراق الذي انتصر مؤخّراً على داعش، على أمل أن يُكمل تطهيره لكل أذنابها.
ميكيس ثيودوراكيس، جاء ليؤكّد أن الفن ليس للفن فقط، كما روّجوا له في بعض البلدان الغربيّة، بل له دور كبير يلعبه وهو من أكثر الأمور تأثيراً في المجتمع، إن أُتيحت له الفرصة للظّهور، ورغم العذابات التي عاشها هذا الموسيقي المتميّز في البدء، فقد فُتِحَت له في منفاه مسارح العالم، التي أطلّ منها وأظهر وجع شعبه ومعاناته وفضح استبداد الحكم في بلاده، وانتصر.
وأنت تودّعه ما عليك إلا الرّقص على أنغام زوربا، وتدير وجهك صوب البحر ليرقص الموج معك.