الإيقاع مُعطى ودلالة
كما أشرنا في مواطن سابقة، نقصد بالإيقاع ما يصل إلى حواسنا منظَّما، لاذّاً، لافتاً، له حضوره، يزهو بنظامه، وكأنّه بذلك يُشير إلى ذلك التنظيم البديع في الكون، المدهش، المُعجِز، وفيه من القيديّة قدر ما فيه من الإحكام والبهاء، دالاّ على أنّ الفوضى وحدها ليس لها نظام، وأنّها ليست من طبيعة المجتمعات، وما ضربت الفوضى مكاناً إلاّ دمّرتْه، وهدّت أركانه.
ذهب البعض في تطرّفه، بالانخلاع، وبالالتحاق بركب الغرب النّهبوي، إلى التأسيس لنثْرَنَة العالم، فكلّ شيء ينصاع لذلك الجبروت اللاّإنساني، فقد ذهب، بحسب زعمهم زمن البداءات، والينابيع، والأوزان/الإيقاع، وجاء دور النّثر، دور “قصيدة النّثر”، و”الرّواية”، واندحر دور الشعر، هكذا!. وساعدهم على التفاؤل بما هم عليه، والتبشير به، ذلك الإعراض عن الشعر، وكأنّ الشعر كان بضاعة العامّة، أقولها دون أيّ تقزيم لمفردة “العامّة”.
العين تكتشف ماحولها من إيقاعات، في المرئيّات، والأذن في المسموعات، وعلى هذا يمكن قياس بقيّة الحواس، لِمَن يتتبّع تفصيلاتها بتأنّ وتفتيش عن الجميل، فكلّ حاسّة فينا تتلقّى مايخصّها من الإيقاعات، الشاملة الكون، لتصل إلى الرّوح، فتمتلئ بذلك العبَق الجماليّ الآسر.
ألا يلفت نظر مَن رُزق العقل والتأمّل كيف أنّ هذا الكون كلّه، من الذرّة إلى المجرّة، يتحرّك في دورانه بحركة متشابهة، بل تكاد في الاتجاه تكون واحدة من اليمين إلى الشمال، وبها اقتدى العارفون في الدّوران حول الكعبة في الحجّ، وتمشّيا معها كان دوران عقارب الساعة، واقتداء بها كانت دورة الرقصة “المولويّة”، أليس هذا نظاماً يخلق إيقاعاته، في أمدائه؟.
قال البعض إنّ هذا الكون في دورانه يبثّ موسيقا، ولعلّها تلك التي قيل فيها “مالا أذن سَمعتْ”، فهل ثمّة موسيقى دون سلّم وعلامات، والمزيد من دقائق القيود التي تتحوّل في حُسن التّناغم إلى أنغام.
أعرف أنّ العالم اليوم ليس عالم منمنمات الكنويشة، والتطريز، وتلوين قتامة الأيام ببهاء تلك الثياب، وهندسة تلك الدّور، والتزويقات اليدويّة البارعة في صياغة الأشياء، أعرف هذا، وأعرف أنّ هذا الإعراض لايُلغي تلك القيمة الجماليّة المبثوثة فيها. أليس في دوران الفصول، ومواعيد الثمار، العديد من القيود المُقوْنَنة؟! إنّ العالم يفسد من غير نظام.
أنظر إلى الفراهيدي، صاحب الأذن الموسيقيّة الفريدة التي التقطت تلك النّغمات الكثيرة، المتعدّدة، المتكرّرة في الشعر العربي، وتفطّنت بصيرته إلى مافيها من نظام، صاغه في دوائر عروضيّة. التوقّف عند مفردة (دائرة) يُلفت إلى أنّ “الدائرة” هي أكمل الأشكال الهندسيّة، فتقاطعَ كمالُ “دائرة العروض”، مع كمال دائرة الهندسة، مع كمال دائرة الوجود.
أولا تلفت النّظر هذه الأنساق “الثلاثيّة” و”السباعيّة” المبثوثة في الكون؟!!
أنا لا أدعوك إلى أن تكون في هذا الدّين، أو ذاك، أو هذه الطريقة أو تلك، أنْ تؤمن أو لا تؤمن فهذا شأنك، ولكنّني أشير إلى مايلفت البصر والبصيرة في هذا الوجود، في نقطة من أهمّ محاوره، وهي تماسك النّظام، وانبثاثه في كلّ شيء، فلماذا نريد للشعر أن يكون متفلّتاً من كلّ نظام؟! أَلَيَتِمّ تأييد عجز العاجز؟!.
اللغة أيضا قيْد، وهانحن حين لم نُحسن التمسّك بها ضربَها هذا الانفلاش الأعمى الجاهل، على يد مَن يتبرّمون حين ينبّههم منبّه إلى وجود أخطاء في اللغة، وهانحن نحصد نتائج ذلك الاستسهال، التحلّل من القيود الضابطة الجميلة!.
في الإيقاع، كما في معظم الأشياء، ثمّة إيقاعان، إيقاع الشعر المعروف، وثمّة إيقاعات “مجازيّة” تُطلَق على الأشياء المتناسقة بتكامل جماليّ تعبيريّ.
ينظر ناقد للفنّ التشكيلين أو متذوِّق له، إلى لوحة معلّقة في معرض، فيقول “الإيقاع” فيها متناسق وجميل، ويعني طريقة اختيار الألوان، وتوزيعها، والموازنة بين الظلّ والنّور.
هنا لابدّ من ذكر “الإيقاع” في الموسيقا، فهو ليس مجرّد مقاييس وموازين، بل له حضوره النّوعي، فالذي يضرب على آلة كالدفّ، أو الطّبلة، أو أيّ مشابِه لها، يسمى “ضابط الإيقاع”، وهو في الموسيقى العربيّة الذي مع نقرة إصبعه على الطبلة تنطلق الآلات صادحة معبّرة، هذا الإيقاع لابدّ منه حتى في الموسيقى الغربيّة، وهو لا يقوم بدور ضابط الزمن، أو مُفْتَتِح حركة الانتقال من سرعة إلى أخرى، أو من ضرْب إلى آخر،.. بل هو قد لا يخطر ببالك قيمة حضوره التعبيري الجمالي، إلاّ إذا حذفتَ هذا الصوت وسمعت حجم الفراغ الذي تركه، وربّما كان دوره في الموسيقا السيمفونية أكثر تعبيرا، لمن يراقب كيف يتمّ الضرب، في التعبير عن عصف الطبيعة، أو انفعال النفوس، بينما دوره في الموسيقا العربيّة هو الضبط من جهة، وتلك النّقرات البديعة، التي يتلاعب بأزمانها ضارب الإيقاع، فتشعر، على يد البارعين في هذا الفنّ، وكأنّه يفرّد عبر تلك آلته الخاصّة.
أعطوني جنسا إبداعيّا ليس فيه قيْد، القيْد في مكانه التعبيري، والدّلالي، أحد مفاتيح إيقاظ الجمال، أو كشف المستور فيه.
أتكلّم بألم، وأعلم أن قلّة قليلة من أصحاب الذّوق الرفيع، والفكر النيّر الذي لا يتعصّب، ولا تُعمي بصيرته ميولٌ ضالّة.. قلّة سوف تتجاوب مع هذا الكلام وتحبّه، والكثير من الغثاء يقذفه وراء اهتمامه، ويسخر منه، فقد اكتفوا بالهيّن المنقول نقلا حرفيّا عن تجارب أمم أخرى، رسّخت خياراتها بعد تجارب واختمار، وحرائق، وآلام، وبين أمّة مازالت تتقاتل من أجل مفاتيح الجنة، هل هي لي، أو لأولئك؟!.
عبد الكريم الناعم