ثقافة

لماذا أجاثا كريستي؟!

عشرات الأعوام مضت على رحيل أجاثا كريستي واحدة من أشهر كتاب قصص الجريمة والغموض، ولن أجازف هنا وأقول أنها أهمهم أو أفضلهم فآخر مايهمني هنا أنا أدخل متاهة التصنيف الأدبي وأقع في وهم الأسماء البراقة. هي أربعون عاماً تقريباً مرت منذ وفاتها والى الآن لم يستطع أحد أن ينتزع منها الصدارة واللقب الذي رافقها طوال حياتها، وهو ملكة القصص البوليسية رغم ظهور العديد من الكتاب الذين تصدوا لروايات الجريمة وحاولوا أن يتبعوا خطاً خاصاً بهم إلا أنهم في كل مرة يحاولون كانوا يرجعون إلى نقطة البداية وهي كريستي.. وهذا يجعلنا نتساءل ترى لم هي دون غيرها استطاعت أن تحصد هذا المجد.
أوّلاً لنتفق على شيءٍ واحد وهو أنه لا بد أنك سمعت باسمها في مكانٍ ما حتى لو لم تقرأ لها أبداً، فهي أصبحت علامة تعريف شهيرة.
أما إذا كنت من المعجبين بها والقارئين لأدبها فلا بد أنك وقعت في سحر حبكات قصصها منذ القصة الأولى ورافقك هذا السحر حتى النهاية.
وأنا من بين ملايين القراء لها كنت ضحية هذا الإبهار والتنوع اللذين ألمت بهما وضمنتهما حكاياتها التي لا تنتمي لأي مكان، إنها فقط مرتبطة باختيارات كاتبتنا ومشاهداتها وهي التي تنقلت في مشرق الأرض ومغربها لنجد هذا التنقل واضح الحضور في أمكنة جرائمها، فهي مرة تختار انكلترا مكاناً للحدث أو جزر الهند الغربية، حلب، بغداد، اسطنبول، أو من يدري قد تقع جرائمها في مدينة جديدة غير موجودة يجرفها خيالها لتوجدها.
إن هذا التنوع في منصات العرض وتمايز الأمكنة التي نادراً ماتتكرر جعلت ذهن القارئ منفتحاً وأكثر استعداداً للتخيل ورسم صورة جديدة ومغايرة للمكان في كل مرة يقرأ رواية جديدة.
أضف إلى لا محدودية المكان هذه لا محدودية الزمن، فالقصة تأخذك بأحداثها بين الماضي والحاضر وحتى المستقبل لا شيء منفصل عن الآخر، معتمدة على قانون السببية بدلالة الزمان الذي تمتد عليه رواياتها.
أضف لهذه السلاسة في الانتقال طريقة العرض المبتكرة فربما تبتدئ القصة بالجريمة أو ربما تبدأ من النهاية وتعود، أو من ذروة الأحداث ثم ترجع وتتقدم. فأنت لا تستطيع أن تتوقع متى ستبدأ الجريمة أو هل انتهت!؟
أو هل ستكون هناك جريمة واحدة!؟ أو اثنتان!؟ أو ربما أكثر، كل هذا منوط بخيالها عليك أن تعترف أنك مفتوح لكل الاحتمالات ومتخبط بأذيال التوهمات، تتوقع أنك ستحل لغزاً واحداً وإذا بك أمام سلسلة من الألغاز والأحداث غير المتوقعة.
هذه الصعوبة في التوقع والتخمين تنسحب على شخصياتها أيضا فهنا أيضاً أنت لا تستطيع أن تحدد من هو المجرم… رجل!؟ امرأة!؟ ربما كان الراوي نفسه! وربما كان الضحية أيضاً من يدري!!؟ فمع جموح خيال السيدة كريستي كل شيءٍ متوقع. تجربة إنسانية جديدة تضعك أمامها رواياتها، فطريقة رسم شخوص حكاياتها ممتعة حتى في أدق التفاصيل، لن تشعرك بالملل بل ستحاول أن تركب كل حرف وكل كلمة وإيماءة كقطع أحجية للتوصل إلى الحقيقة التي طالما يئست من الوصول إليها في منتصف الأحداث عندما تتشابك الشخصيات والمصائر والماضي والحاضر.
والحقيقة أنه لطالما أذهلتني هذه القدرة على المزج الذي تمتعت به وكيف كانت تنتقل مع أبطال رواياتها في السنين دون أن يؤثر ذلك على الموضوع الأساسي وهو الجريمة ودون الشعور بالضجر.
الملل مرفوض في قصصها وحكاياتها لأنها لا تكتب عن قاتل ومقتول فقط كما يظن البعض ممن لم يقرأ لها. إنها تكتب للنفس الإنسانية التي تضيع في لحظات، ويتشتت تركيزها، لتلك النفوس التي تفقد السيطرة على نفسها ثانية وتُحدث الحدث، إنها تسبر أغوار النفس البشرية لشخوص رواياتها، تفندها، تشرحها، تصفها، قبل أن تبدأ بالجثة والسكين، فتتعاطف مع بعضها وتكره البعض الآخر.
لا بد أن أعترف أني في كل مرة أقرأ لها تحضرني تجربة الموت، ويستفزني الخوف، أشعر كما يشعر الكثيرون بالموت يحيط بي من كل جانب وبكافة الطرق، وهي ميزة لا يتمتع بها كثيرون، أعني أن يثير الكاتب في نفس قراءه غريزة ما هذا بحد ذاته انتصار.
أجاثا تخلط الأوراق، تتلاعب بالبنى النفسية لشخصياتها، ترجع الزمان للوراء أو تدفعه للأمام، تكسر قيود المكان، وتفاجئك كل مرة بنهاية غير المتوقعة، فتقبل وأنت القارئ المتمرس لكتبها في كل مرة دون تصورات مسبقة برغم معرفتك ماتكتبه إلا أنك تمسك قصصها دون أحكامٍ مسبقة أو توقعات، تريد فقط أن تقرأ وتستمتع بقصة جديدة محفوفة بالغموض واللامعقول الممكن.
لماذا إذاً أجاثا…!؟  لأنه وبكل بساطة في كل مرة تقرأ لها… يحيط بك الموت، وتسلم نفسك وبكل طواعية للمجهول ولتجربة الخوف الوهمي الذي تفرضه عليك سلاسة وهدوء قلمها البوليسي الفذ.
بثينة أكرم قاسم