مالك علولة.. صراع الذاكرة ضد النسيان
كان الاغتراب الثقافي الذي فرضه الاستعمار الفرنسي جائراً جداً, مما جعل مالك علولة، الذي يعتبر ابن فترة وجود الاستعمار الفرنسي في بلده الجزائر يقول عن المستعمر الفرنسي: “ذات مرة خلال المرحلة الدراسية كنا نتحدث في البيت العربية, لكن ندرس في المدرسة تاريخ فرنسا فقط, وكانت اللغة العربية بالنسبة لنا لغة أجنبية في بلدنا”.
وكانت مدارس تعليم العربية في هذه الفترة نادرة ما عدا مدارس حفظ القرآن, وبعد حرب التحرير الجزائرية والتحرر من ربقة المستعمر الفرنسي كان أغلبية الجزائريين أميين.
درس مالك علولة الذي وُلد عام 1937 في وهران، المدينة الساحلية التاريخية، وأكثر المدن انفتاحاً على العالم، في هذا الجو نشأ وترعرع, درس في المدرسة العليا للمعلمين في الجزائر العاصمة, حيث كان أحد الجزائريين القليلين الذين تمكنوا من التعلم في المدارس الفرنسية. وفي عام 1960 سافر إلى باريس لمتابعة دراسته في جامعة السوربون حيث حصل على الدكتوراه بأطروحة عن الكاتب والفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو.
توفي مالك علولة – الشاعر والناقد – وأحد أعلام الأدب الجزائري الحديث, في العشرين من شباط عام 2015 عن عمر ناهز 77 عاماً. أصدر ديوان شعر بعنوان “مدن” عام 1969 وهو أول عمل له, وفي عام 1981 أصدر كتاب “الحريم الكولونيالي” (فانتازيا الحريم في ألبوم البطاقات البريدية من الحقبة الاستعمارية) بالفرنسية, وهو بلا شك الأكثر شهرة من بين أعماله.
قام علولة في هذا الكتاب بدراسة وتحليل صور بطاقات البريد الفرنسية أثناء الاحتلال الفرنسي والتي وصفها “بسماد النظرة الاستعمارية للعالم”، ففي هذا الكتاب مقاربة لا ترحم للبطاقات البريدية التي غصّت بها الأسواق الأوروبية في التسعينيات لصور نساء مغاربيات نصف عاريات أو عاريات يتم تداولها كوثائق إكزوتيكية ورموز انتصار قبل أن يتبدد سحر الانتهاك ليتحول إلى عبء مؤرق حيث جُرّت ” نساء المقاطعات” آنذاك للمثول أمام عدسات الكاميرا. ضحايا حرب, يتيمات, كُشفت أجسادهن بطريقة مسعورة بما يتنافى والأخلاق.
واصل علولة مشواره الإبداعي بأربعة أعمال شعرية وأدبية أخرى بينها “ولاية الغربة” في عام 2003. والذي أثّر على أسلوبه الأدبي هو الحياة في الغربة وكذلك تغيير الأماكن, زادت حساسيته لبعض المواضيع في بعض الأعمال بسبب حياته في المنفى, كما في راويته منظر العودة “التي صدرت عام 2010 في باريس, ويحكي فيها قصة رجل يعود إلى قريته في الجزائر. تتحدث الرواية عن خيبات الأمل التي خبرها هناك وشاهدها, تحاكي أعماله دائماً الذاكرة الثقافية لبلده, وتشويهاتها وتحريفها, والتي يصفها دون أوهام ويراقبها بشكل حاد دون الوقوع في النظرة المثالية لبلاده.
صدرت مؤلفات علولة عن “منشورات سندباد” منذ الثمانينيات, حيث لم يكن سعر الكتاب يتجاوز الأربعين ديناراً في الجزائر. وفي تونس حرص الأساتذة على توزيع كتاب “ماسح الأحذية الصغير يا أخي” خارج المنهاج الدراسي, وهي أول قصيدة كتبها علولة إثر خطاب الرئيس احمد بن بله حول “مشاهد إذلال الأنديجان” وسعي الاحتلال الفرنسي إلى تركيع الشعب من خلال تشغيل الأطفال الجزائريين في مسح الأحذية. وكان على الجزائر التي استعادت كرامتها المنهكة أن تمحو كل اثر يذّكرها بـ “الجلاد”.
تتخذ كتابات مالك علولة أهمية كبرى لجهة تهذيب المادة التاريخية المؤرشفة, وضخها إلى الجيل الجزائري الحديث, بأفق أكثر رحابة، فمن الواضح أن إعادة وصف العالم يشكل الخطوة الضرورية الأولى في طريق تغيره، وتحديداً حين يأخذ الاحتلال الواقع بين يديه, ويطلق العنان في تشويهه, الطريقة المثلى لمكافحة التلقين الممنهج ورفض النسخة الرسمية للحقيقة التي تتم وفق المستعمر عبر الفن.
“صراع الذاكرة ضد النسيان” هو ما شكل دعامة لسقف الواقعية الذي اشتغل علولة تحته بذهن شارد منجرف إلى ماض لم يغفر له قسوته, ونزعة تدميرية تتجلى في البحث من جديد عن التماس مع الألم لترسيخ العبثية وإذابتها.
وكما قال الواقدي: (رأيت بقّالاً في المدينة, وقد أشعل بين يديه سراجاً في النهار, فقلت له: ما هذا؟ قال: أرى الناس يبيعون ويشترون حولي, ولا يدنو مني أحد, فقلتُ عسى ليس يراني إنسان, فأسرجتُ). هكذا كان حال مالك علولة وأمثاله ممن عاشوا مع هاجس الكتابة بشجاعة هادئة, وحيدين على منصة سفينة تغرق, كان عليهم أن يخرجوا بقناديل في وضح النهار أو يحملوا على رؤوسهم لوحات إرشادية مضيئة بالنيون كي نراهم, نحن المصابين بداءٍ في العيون.
إبراهيم أحمد