فاسد ملح هذه الأيام
يهبط الحزن على قلبي هذا المساء مثل عصفور صغير سقط من عشه في غفلة منه أو من أمه، يهبط ويغري بكثير من الدمع والبكاء والذكريات التي لا تمحى.. الذكريات الطافحة برائحة ظلم ذوي القربى والغرباء والأصدقاء, المارقين على رصيف العمر, والعابرين في الحلم والجمل المنسية في ركام الزمان والأصدقاء. في القبل المؤجلة، في الدمع المخبأ ما بين بين، المكابر على مايكابر من قهر وانكسار وخيبات (الأصدقاء خونة مؤجلون), الأصدقاء الذين أفردت ما أفردت لهم من أيام وليالٍ.. من فرح وأحزان، من كسرة خبز وهواء وسرير، من بقايا ملح وأغانٍ حزينة, ومن قصص وقصائد ومشاريع أحلام, ومن سفر على غيمة تسافر في كل الجهات, تحمل كل ما بوسعها من تلك الأحلام التي لم يفسدها لا صقيع تلك الأيام ولا مكائد العسس، فاسد ملح هذه الأيام، فاسد هواء هذه الدنيا، فاسقون وجلادون وقتلة من اعتقدت أنهم ذات ملح, ذات رغيف, ذات غيمة أصدقاء! أصدقاء ربيتهم في الصحو وفقدتهم في الغفلة, تمر العرافة.. تعبر هواء رصيفنا.. وحلمنا الخجول متشحة بالسواد تدمدم.. قائلة: (أنا عرّافة الكف، الأصابع، العيون وما يخفيه حرف النون..) ما يخفيه الأصدقاء، وما قاله ويقوله، وما لا يقال.. الأصدقاء.. أفتح يدي. أصابعي عيني وأبوح ما أبوح عن عذابات النون.. يأتي المساء، تأتي الأغاني الحزينة، الذكريات…(الأعدقاء).. يأتي الليل متربعاً على عرش القلب.. الذاكرة والأشياء.. يرسل بكل حب رسائل الخيانات، الخيبات إلى الأصدقاء المدجنين.. السرمديين في الخيانة، الأصدقاء المدجنين في حكمة الغدر.. وأقول بيني وبيني: “ربي نجني من الأصدقاء”.
يهبط الحزن في هذه الليلة.. وفي كل مساء كلما تذكرت صديقا أو مشروع صديق. أو يهبط ملاك في روحي ويحذرني. أن ابتعد..، لكنه الليل الطويل. كذلك النهار الملول, الذاكرة, الأرصفة, الجدران الستة والأطفال الذين زاروا الحياة مرة واحدة ومضوا.. مع بكاء مرير بعيون قرمزية.. وأمهات عمّدن دمعهن في صلصال من بنفسج. (لقد عذبني الله طوال حياتي) يا الله..، يارب.. دمرني الحزن من الوريد إلى الوريد.. يارب… قهرتني الحياة، قهرني الأصدقاء.
تقول العرافة سر القهر يكمن في الخيانات الطارئة.. لا أصدقاء.. لا..، لا أحد أنت من..؟! وأنت السبب في كل هذا وذاك.. أنت وأنت.. هذا الخراب،..الخراب، أنت من اقتاد كل هذا الخراب والويلات. إذاً أنا من جلب كل ذاك “السخام” إلى هذا البياض, أنا من طير الحجل في سماء قاتمة ليست لي. أنا من بحث عن بوم بعيون طارئة وحزينة ليزين بهما قناديل العتمة في مرايا الصباح, في نسيج مريول الصبايا الذاهبات إلى كراريس العشق المؤجل في خابيتين، في نهدين شامخين.. في أغنيتين من مساء بارد شاحب وقامة من عوسج في أحمر يسقط جوار القلب ولا يهادن. أصدقاء اعتقدتهم ذات مساء أو صباح أصدقاء. في قلب يعشق ذكريات الذين اعتقدتهم ذات مساء أو صباح أصدقاء.. بكاهم ذات مرة. مثل دوري هرب من صيف واستحم في نار, مثلما فراشة زارت الضوء وغازلته فارداها قتيلة. لاشيء، كان، ولن يكون, بشر عابرون في زحام نصاعة البياض وفي سواد الأيام.
أحمد عساف